الاستثمار الأخضر .. وسيلة للثراء لكن مع مراعاة البيئة
ارتفاع مستويات سطح البحر، وحرائق الغابات المستعرة، والفيضانات، وموجات الحرارة المرتفعة، مظاهر مأساوية لتغير المناخ تؤكد أننا أمام تحد حقيقي يهدد العالم كما نعرفه اليوم، ويحتم التحرك سريعا صوب أهداف عالمية لخفض انبعاثات الكربون إلى الصفر وتقليص الصناعات الملوثة للبيئة.
ومع ازدياد أهمية قضية تغير المناخ وتأثيراتها متعددة الأوجه بما في ذلك على الاقتصادات، تسارع الشركات في أنحاء العالم صوب إيجاد حلول وأدوات مبتكرة يمكن أن تساهم في تخليص العالم من انبعاثات الكربون التي تساهم بشكل رئيسي في تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة. وتشهد الأسواق تحركاً من الشركات نحو الاستثمار في الحلول التقنية التي تعزز الاستدامة سعيا لتحقيق أرباح، لكن دون الإضرار بالبيئة.
الاستثمار في هذا القطاع واسع النطاق، فمن الشركات العاملة في تكنولوجيا الطاقة المتجددة إلى شركات السيارات وحتى شركات إدارة النفايات.
يمثل خفض الانبعاثات، والذي يتضمن تقليص الانبعاثات الكربونية، بل والوصول بها إلى مستوى صفري، نقطة تركيز رئيسية للاستثمارات المناخية. كما أن هناك فرصا أقل شيوعا لخفض الطلب على الطاقة وتحويل العمليات كثيفة الكربون بخلاف الطاقة.
يمكن تحقيق هذا الهدف عبر تسريع توليد الطاقات المتجددة وتخزينها. ويمكن تحفيز تطبيق تلك التقنيات عبر القواعد التنظيمية مثل وضع معايير لحصص محافظ الطاقة المتجددة في مشروعات المرافق مما يزيد حجم الطاقة النظيفة.
خفض الطلب على الطاقة أيضا يمكن أن يقلص الانبعاثات، على الأخص في الأمد القريب قبل أن تتحول شركات الكهرباء إلى الاعتماد على المصادر المتجددة، فضلا عن تقليل تكاليف التشغيل.
تحول الصناعات الكثيفة عن الكربون مطلوب أيضا، من بين ذلك على سبيل المثال ابتكار منتجات في صناعة الأسمنت تسبب بصمة كربونية أقل، والعثور على مواد خام يمكن أن تحل محل تلك المشتقة من النفط والغاز مثل البلاستيك والأسمدة، وتحسين كفاءة الموارد على مطاق أوسع لتقليل الطلب على المواد الخام الأساسية وتحفيز المزيد من إعادة التدوير والاقتصاد الدائري.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن ثمة حاجة إلى 500 مليار دولار سنويا حتى عام 2050 للتكيف مع تغير المناخ.
وتشير الإحصائيات إلى أن الشركات تعزز بصفة عامة استثمارات رأس المال المخاطر في قطاع تكنولوجيا المناخ خاصة في الشركات الناشئة التي يمكن ان تساعد على الاستفادة من تحول الطاقة.
الطاقة المتجددة وتخزين الطاقة والسيارات الكهربائية
في العام الماضي، استثمرت صناديق رأس مال المخاطر الخاصة بالشركات 23.2 مليار دولار في أنشطة بقطاع تغير المناخ وهي فئة واسعة تشمل الطاقة المتجددة وتخزين الطاقة والسيارات الكهربائية. ومبلغ الاستثمار يزيد على ضعفي الرقم المسجل في 2020. وتوزع التمويل المقدم لتقنيات المناخ عبر 210 صفقات، ارتفاعا من 165 قبل عام وفقا لـ" ."PitchBook
وخلصت دراسة منفصلة أجرتها "برايس ووتر هاوس كوبرز" إلى أنه عند ضم الصور الأخرى من التمويل بما في ذلك الأسهم الخاصة، فإن ذلك تمخض عن جمع نحو 60 مليار دولار خلال النصف الأول من العام فقط عبر أكثر من 600 صفقة في قطاع المناخ.
الطاقة النظيفة: يرى خبراء أن الطاقة النظيفة هي المحرك الأساسي لتحقيق انبعاثات صفرية من الكربون وأنها البديل الفعال للوقود الأحفوري، إذ إن هذه الموارد يمكن أن تنتج الطاقة بتكلفة غير مرتفعة وبدون الإضرار بالبيئة أو زيادة انبعاثات الكربون كما أن بمقدورها أن تحقق وفورات ضخمة.
لذا فهناك إجماع على أن الشركات العاملة في قطاع الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين وكذلك الغاز الطبيعي بدرجة أقل بالإضافة إلى الشركات المتخصصة في تطويل التقنيات في الأنظمة المستخدمة لإنتاج الطاقة المتجددة، مثل تطوير تكنولوجيا الطاقة الشمسية، تقف على رأس المستفيدين من الاستثمار في مكافحة التغير المناخي مع تحول اقتصادات الطاقة.
كما أن الطاقة النظيفة باتت أقل تكلفة بفضل التطور التكنولوجي واقتصادات الحجم وزيادة المنافسة. على سبيل المثال، انخفضت تكاليف تقنية الخلايا الشمسية بواقع 85 بالمئة منذ 2010، مما جعلها منافسة مع الوقود الأحفوري.
يبلغ حجم سوق الطاقة المتجددة 860.37 مليار دولار في 2021 ومن المتوقع أن يسجل نموا سنويا مركبا 8.5 بالمئة خلال الفترة من 2022 إلى 2029.
محطات الرياح البحرية .. إمكانات كبيرة
من بين أبرز الأمثلة في ذلك القطاع مؤخرا محطات الرياح البحرية، لما لها من إمكانات كبيرة في توليد الطاقة النظيفة، وكانت إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" أبدت اهتماما خاصا بهذا القطاع إذ تعهدت بتوليد 30 جيجاوات من طاقة الرياح البحرية بحلول 2030.
وهو ما يكفي لإمداد عشرة ملايين منزل بالكهرباء وفي فبراير، جمعت الحكومة الأمريكية مبلغا قياسيا قدره 4.37 مليار دولار من خلال بيع ستة عقود إيجار لمناطق بحرية لتوليد الطاقة في نيويورك ونيوجيرسي، وهو أول عطاء من نوعه يجري في عهد إدارة "بايدن".
شركات تقنيات الكربون: يلقي العلماء باللوم على الغازات الدفيئة الناجمة عن النشاط الإنساني في رفع درجة حرارة الأرض فهي تسبب في الاحتباس الحراري وبالطبع فإن ثاني أكسيد الكربون يأتي على رأس هذه الغازات، وزاد تركز هذا الغاز بنسبة تبلغ نحو 50 بالمئة منذ بداية الثورة الصناعية.
ومن المتوقع أيضا أن تستفيد الشركات التي تطور مبادرات للطاقة الخضراء من مكافحة تغير المناخ ويشمل ذلك الشركات العاملة في تقنيات استخلاص الكربون واستخدامه وتخزينه ليتحول فيما بعد إلى وقود لوسائل النقل.
شركات النقل: من المعروف أن قطاع النقل من أكبر القطاعات التي تساهم في انبعاثات الكربون ومن ثم فإن التحول في القطاع صوب السيارات الكهربائية وتطوير أنواع من الوقود الأخضر لوسائل النقل يساهم في مكافحة تغير المناخ، فالسيارات الكهربائية لا تصدر انبعاثات كربونية مما يعني أنها تساهم في تحسين جودة الهواء.
ترى الشركات أنها بحاجة إلى الاستثمار في قطاعات عدة، فهي بحاجة إلى توريد بدائل للكيروسين مصنوعة من الوقود الحيوي أو منتجات النفايات أو الهيدروجين، والهدف أحيانا هو إنتاج وقود للطائرات منخفض الكربون كما أن ثمة زخما أيضا زخم لتطوير محركات نفاثة هيدروجينية كهربية.
ومع اتجاه الأنظار صوب الاستدامة، تشهد سوق السيارات الكهربائية نموا قويا، يشمل ذلك المركبات الخاصة والتجارية كالحافلات والشاحنات وذلك بفضل عوامل من بينها أن الحكومات في مختلف أنحاء العالم تعمل على تكثيف الضغوط على شركات صناعة السيارات لوقف إنتاج السيارات التي تعمل بالوقود التقليدي.
وتبدو توقعات القطاع مشرقة، فمن المتوقع أن تستحوذ السيارات الكهربائية على 33 بالمئة من إجمالي المبيعات العالمية بحلول 2028، و54 بالمئة بحلول 2035 وذلك على الرغم من أنها شكلت 8 بالمئة فقط في العام الماضي وما يقل عن عشرة بالمئة في الربع الأول من 2022.
جنرال موتورز الأمريكية مثال واضح على هذا السعي، إذ تتحرك في قطاع الاستثمار مستهدفة الشركات العاملة في قطاع البرمجيات والأجهزة معا من أجل تحقيق ثلاثة أهداف صفرية ضمن استراتيجيتها "صفر انبعاثات، وصفر أعطال، وصفر ازدحام".
وقال "ويد شيفر" العضو المنتدب لدى الذراع الاستثمارية لجنرال موتورز "جي ام فينتشرز" إن الشركة تعمل كمستكشف لحساب "جنرال موتورز" الأم، ساعية وراء تقنيات ستشكل الاتجاه الرئيسي في نهاية المطاف، متوقعا أن تكون جنرال موتورز هي العميل الأول والأكثر قيمة للشركات الناشئة.
وشاركت جنرال موتورز في العام الجاري في جولة تمويلية بقيمة 11 مليون دولار لشركة "Soelect" التي تطور بطاريات كهربائية صلبة قد تستخدم في الجيل القادم من السيارات الكهربائية.
تكنولوجيا المياه: يمكن أن تساعد حلول المياه في زيادة الإمدادات وتخفيف ندرة المياه في العالم وتقليص حدة الجفاف وهي واحدة من أكثر التحديات التي تفاقمت بسبب تغير المناخ. ففي الولايات المتحدة فقط، تسبب الجفاف في خسائر 259 مليار دولار. وتقدر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أن أكثر من ملياري شخص على مستوى العالم يعيشون في بلدان تواجه مشكلات مائية. ومع ذلك يستمر الطلب على المياه في الارتفاع في البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض.
ومن المتوقع أن ينمو السوق العالمي للمياه ومعالجة الصرف الصحي بسرعة لتلبية هذا الطلب. وفي عام 2020، بلغت قيمة السوق 61.6 مليار دولار ومن المتوقع أن تنمو السوق بمعدل نمو سنوي مركب 4% من 2021 إلى 2028.
تخزين الطاقة: يمكن أن تلعب شركات تخزين الطاقة والشبكات الذكية دورا مهما في تحسين كفاءة استهلاك الطاقة. ومن المتوقع أن يشهد هذا القطاع نشاطا محموما في السنوات المقبلة. وبلغت قيمة السوق 36.9 مليار دولار في 2021، ومن المتوقع أن يشهد نموا سنويا مركبا 8.7 بالمئة ليبلغ 55.9 مليار دولار بحلول 2026.
تقنيات إدارة النفايات: المزيد من النفايات يعني تصاعد المزيد من غاز الميثان في الغلاف الجوي مما يتسبب في تدهور أكبر لارتفاع درجات الحرارة على مستوى العالم. ينتج البشر النفايات بوتيرة أسرع مما يمكنهم معالجتها. يقدر البنك الدولي أنه بحلول 2030، سينتج العالم 2.59 مليار طن من النفايات سنويا و3.4 مليار طن بحلول 2050. لذا تشكل الشركات العامة في معالجة النفايات والتخلص منها وإعادة التدوير واستعادة المواد وتحويل النفايات إلى طاقة ومكافحة التلوث لاعبا مهما في مكافحة تغير المناخ.
التمويل الأخضر: مكافحة تغير المناخ أمر مكلف، وتتسم الكثير من التقنيات التي ذكرناها آنفا بارتفاع تكلفتها، وهذا هو السبب في أن الكثير من الشركات تتحول إلى مبادرات التمويل الأخضر للمساعدة في تمويل مشروعات صديقة للبيئة، سواء كان ذلك عن طريق السندات الخضراء، حيث تلتزم الجهات الصادرة باستخدام العوائد على مشاريع أو معدات صديقة للبيئة، أو من خلال القروض المرتبطة بالاستدامة والتي يلتزم فيها المقترض بأهداف أداء خاصة بالاستدامة مقابل الحصول على سعر فائدة رخيص. ونتيجة لذلك، ارتفع الاقتراض الأخضر عبر إصدار سندات وقروض خضراء، والتمويل بالأسهم عبر الإصدارات العامة الأولية التي تستهدف مشروعات خضراء إلى 540.6 مليار دولار في 2021 من 5.2 مليار في 2021.
شركات الإنشاء والملابس
شركات الإنشاء: بينما يركز الجميع على كيفية مكافحة وإبطاء تغير المناخ، يسعى البعض للتفكير في وسائل لاكتساب مرونة أكبر للتكيف مع آثار التغير المناخي، يشمل ذلك الابتكارات والتقنيات اللازمة لتشييد مبان تتسم بالكفاءة في استهلاك الطاقة، هذا فضلا عن تشييد بنى تحتية قادرة على تحمل والتكيف مع ارتفاع مستويات سطح البحر، كما أنه في ظل اختفاء المناطق الساحلية المأهولة تحت مياه البحار والمحيطات، ستكون هناك حاجة لبناء منازل جديدة للنازحين، وكذلك تعزيز البنى التحتية القائمة كالسكك الحديدية والمطارات والطرق. هذا فضلا عن أن نموذج المستقبل المستدام سيتطلب عودة أعداد كبيرة من السكان إلى المدن العملاقة، مما يعني زيادة الطلب على المباني السكنية الشاهقة الارتفاع والمشاريع الحضرية الأخرى.
أبرز مثال على ذلك، كان عندما قامت ذراع رأس المال المخاطر التابعة لشركة "Prologis" للعقارات اللوجيستية بالاستثمار في "ريدابتيف" وهي شركة ناشئة توفر البيانات وأدوات الذكاء الصناعي لتقليل استخدام الطاقة في المباني في مجالات مثل التدفئة والتهوية والإضاءة وتكييف الهواء. وبدأت الشركة تستخدم أدوات "ريدابتيف" في مخازنها الخاصة. وقام المستأجرون الآخرون لدى "Prologis" بطلب استخدام تلك الأدوات أيضا. وقالت "ريدابتيف" إن أدواتها تمكنت من تجنب انبعاث مليون طن من ثاني أكسيد الكربون.
شركات النسيج: الملابس في النهاية وسيلة للحفاظ على سلامتنا وراحتنا في الطقس البارد أو الحار. ومع تزايد تطرف المناخ، سيسعى مصنعو الملابس لتطوير أنواع جديدة من الملابس للعيش في هذا النوع من المناخ. ومن المتوقع أن يزداد الطلب على الملابس المتطورة المقاومة للطقس مع تفاقم تغير المناخ فقط مما يضع صناعة النسيج على طريق تحقيق أرباح ضخمة إذا تمكن المصنعون من ابتكار ملابس مقاومة للعوامل الجوية.
شركات صناعة أجهزة التدفئة وتبريد الهواء: في ظل درجات حرارة شديدة التطرف، فإن خدمات التبريد والتدفئة تشهد ارتفاعا في الطلب، حيث يستمر تغير المناخ في التسبب بزيادة وانخفاض درجات الحرارة في أماكن مختلفة من العالم. على سبيل المثال ترتفع درجات الحرارة على مستوى العالم، ويمثل ذلك فرصة خاصة في المواقع المكتظة بالسكان حيث يمثل تكييف الهواء فرصة للشركات العاملة في صناعة تلك الأجهزة.
بالطبع فإن أجهزة تكييف الهواء تساهم في تغير المناخ بسبب استخدام مركبات الهيدروفلوروكربون التي تحتجز قدرا كبيرا من الحرارة في الغلاف الجوي أكثر من ثاني أكسيد الكربون. لكن مع تحرك البلدان للتخلص من استخدام تلك المركبات، فإن الشركات التي تنتج حلولا لتكييف الهواء ميسورة التكلفة وقابلة للتطوير أقل تلويثا للبيئة ستكون فرصة جيدة للاستثمار.
شركات الزراعة والأغذية والتكنولوجيا الحيوية: سيؤدي النمو السكاني العالمي وتغير عادات المستهلكين إلى زيادة الطلب على الغذاء بحلول 2050، مما يتطلب إنتاجية أكبر للزراعة. وفي الوقت نفسه فإن ندرة الموارد من المياه إلى الأراضي الصالحة للزراعة تفرض ضغوطا على الإنتاجية. يحتاج القطاع الزراعي إلى التكيف مع الظروف المناخية المتغيرة وتمثل الشركات التي تعمل في مجال الابتكار الزراعي والغذائي فرصة مهمة لتطوير جهود مكافحة المناخ في ظل أن التغير يمثل تهديدا كبيرا للبيئة، سواء كان ذلك من خلال تحسين جودة المحاصيل وإثراءها وزيادة معدلات نموها أو من خلال وتقليل الانبعاثات الناتجة عن عمليات الإنتاج وتحسين سلاسل الإمداد.
المصادر: أرقام- بلومبرج- رويترز-بولاريس لأبحاث السوق- مورجان ستانلي- "Industry Today"
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}