نبض أرقام
04:22 م
توقيت مكة المكرمة

2024/10/30
2024/10/29

أغبياء لكن ظرفاء .. لماذا يرفض الناس الاعتراف بجهلهم؟

2019/05/04 أرقام - خاص

في التاسع عشر من أبريل/نيسان من عام 1995 قام الأمريكي "ماك آرثر ويلر" بالسطو على بنكين في مدينة بيتسبرج بولاية بنسيلفانيا في وضح النهار. وتمكنت كاميرات المراقبة من التقاط صور واضحة لوجهه، إذ لم يكن يرتدي قناعاً. وبسرعة تم التعرف على هويته، ليجد الشرطة تطرق بابه بعد منتصف الليل بقليل.

 

 

فتح "ويلر" الباب مذهولاً وغير مصدق لحقيقة أن الشرطة تمكنت من التعرف عليه قائلاً لهم: "ولكنني كنت أضع العصير على وجهي"!!
 

هل تراني؟
 

قال "ويلر" للشرطة إنه وضع عصير الليمون على وجهه ليجعله غير مرئي للكاميرات الأمنية. ورغم جنون هذه المزاعم إلا أن المحققين خلصوا إلى أن الرجل لم يكن سكراناً ولا منتشياً بالمخدرات، كل ما في الأمر أنه ارتكب خطأ غبياً.
 

والحكاية ببساطة هي أن "ويلر" كان يعرف أن عصير الليمون يستخدم كحبر سري يخفي الكتابة. وعلى هذا الأساس اعتقد أنه من المنطقي جداً أنه إذا وضع عصير الليمون على وجهه سيصبح غير مرئي للكاميرات.

والأكثر جنوناً من ذلك هو أن "ويلر" أخبر الشرطة أنه اختبر بالفعل هذا الأمر، والتقط لنفسه صورة باستخدام كاميرا "بولارويد" ولم يجد وجهه بالصورة!

 

لكنه اعترف أيضاً أنه عانى مشكلة بسيطة أثناء التقاط هذه الصورة، وهي أن عصير الليمون دخل في عينيه لدرجة جعلته يرى بصعوبة. وبعيداً عما قاله "ويلر" للشرطة، يبدو أن كفاءته كمصور لا تختلف كثيراً عن كفاءته كسارق بنك. والطريف هو أنه لم يغير رأيه حتى بعد أن رأى وجهه واضحاً في تسجيلات الكاميرات التي وصفها بالمزيفة.



 

دخل "ويلر" السجن في عام 1996 وانضم إلى قائمة أغبى المجرمين في العالم. ولكن طرافة قصته لفتت انتباه أستاذ علم النفس بجامعة كورنيل "ديفيد دونينج" الذي رأى فيها ملمحاً يمكن اعتباره شيئاً عالمياً. وهو أن الأشخاص الذين يفتقرون إلى المعرفة والمهارات غالباً ما يبالغون في تقديرهم لقدراتهم.
 

وبالتعاون مع طالب الدراسات العليا "جوستين كروجر" أجرى "دونينج" سلسلة من التجارب لاختبار هذه الفرضية، وفي العام 1999 نشرا ورقتهما البحثية الشهيرة التي جاءت تحت عنوان "غير مهرة وغير مدركين لذلك: كيف أن الصعوبات التي يواجهها المرء في إدراك عدم الكفاءة تؤدي إلى تقييمات ذاتية متضخمة".
 

وهم التفوق
 

نحن البشر فاشلون جداً حين يتعلق الأمر بالتقييم الذاتي، وغالباً ما نعتبر أنفسنا أكثر ذكاء وقدرة مما نحن عليه في الواقع. فغالبيتنا يعتقدون أنهم أفضل أو أكثر تفوقاً على الآخرين، على الرغم من أن هذا مستحيل من الناحية الإحصائية، وهذا في الحقيقة نابع من مبالغتنا في تقدير قدراتنا الحقيقية. وفي علم النفس تسمى هذه الظاهرة "وهم التفوق".
 

على الأرجح لا يوجد منا من لم يتعرض لذلك الموقف عندما يلتقي بشخص لا يدرك كم هو غبي، وربما أبرز مثال على ذلك أولئك الذين تصادفهم على الإنترنت ويصرون على رأيهم بقوة ويرفضون تغييره حتى بعد أن تقوم بدحضه بكل الطرق الممكنة. أو أولئك الذين يلقون على مسامعنا مراراً ذات النكات السخيفة التي لا يعتقد سواهم أنها مضحكة.
 

كم مرة حضرت تجمعاً عائلياً وتحول حديثكم إلى جدل اجتماعي سياسي اقتصادي لتدرك أن عمك ليس موظفاً حكومياً وإنما أستاذاً بالعلوم السياسية وأن والدتك تعرف عن الاقتصاد ما لا يعرفه الخبراء، وأن كليهما مقتنعان فعلاً بذلك. كل هؤلاء لديهم شيء واحد مشترك وهو أنهم يتجاهلون جهلهم.
 

والشيء الأكثر خطورة هو أن الأشخاص غير الأكفاء نادراً ما يغيرون مواقفهم حتى بعد مواجهتهم بالواقع، وهو ما يتسبب في صعوبة قبولهم لردود الفعل السلبية تجاه مواقفهم.

 

 

من النتائج المثيرة للاهتمام التي خلصت إليها أبحاث "دوانينج" و"كروجر" هي أن الخبراء وأصحاب الكفاءات يميلون في أكثر الأحيان إلى التقليل من قدراتهم، وأنهم أكثر تقبلاً للنقد من أقرانهم الأقل كفاءة الذين يسارعون إلى تبني استراتيجية دفاعية معتبرين أن ذلك هجوماً شخصياً عليهم.
 

أشار "دونينج" إلى دراسة أجرتها الأقسام الهندسية لشركات البرمجيات في منطقة خليج سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، طلب خلالها من المهندسين تقييم كفاءتهم. والنتائج لم تكن فقط مثيرة جداً للاستغراب بل كانت مستحيلة إحصائياً أيضاً.
 

في واحدة من الشركات، قال 32% من المهندسين إنهم يعتقدون أنهم ضمن الـ5% الأكثر كفاءة ومهارة في الشركة. وهذا يبدو مدهشاً إلى أن تنتقل إلى شركة أخرى شملتها الدراسة لتجد أن 42% من مهندسيها يعتقدون أنهم ضمن الـ5% الأعلى بالشركة. أغلب هؤلاء إن لم يكن جميعهم بالغوا في تقدير قدراتهم.
 

تشير العديد من الدراسات إلى أن المبالغة في تقدير الذات هي في حقيقتها نتاج التفاؤل غير العقلاني الذي يسيطر على بعض الناس حين يحاولون تقييم قدراتهم، وذلك على عكس الخبراء والمختصين الذين يدركون قصورهم المعرفي لأنهم يعرفون حدودهم.
 

كيف تساعد غبياً لا يدرك غباءه؟
 

كيف يمكننا معالجة تلك المشكلة ودحض ذلك الوهم؟ في الحقيقة قد تكون هذه مهمة صعبة بعض الشيء، فنحن لدينا هنا غبي لا يجهل غباءه فقط وإنما أيضاً بسبب حقيقة أن ذلك الشخص غبي فإنه على الأرجح سيظل كذلك لأنه لا يستطيع الاعتراف بغبائه.
 

ورغم ذلك تشير أبحاث "دونينج" إلى أن هناك طريقة واحدة لمساعدة الشخص على الخروج من هذا الفخ، وهي عبر إثقاله معرفياً أو إعادة تأهيله. باختصار إن السبيل لجعل الأفراد غير الأكفاء يدركون عدم كفاءتهم هي من خلال جعلهم أكفاء.



 

فبحسب كل من "دونينج" و"كروجر" يمكننا زيادة قدرة الأفراد على إجراء تقييم ذاتي أكثر واقعية من خلال تثقيفهم في المجال المعني حتى يتمكنوا من بناء الإطار الذي من شأنه أن يسمح لهم بفهم ما تستلزمه الكفاءة.
 

فالناس كلما عرفوا أكثر كلما أدركوا مدى جهلهم بالواقع. بعبارة أخرى كلما حاولنا معرفة المزيد عن قضية معينة كلما استوعبنا مدى تعقيدها وشمولها وأدركنا حجم الأشياء التي نجهلها حولها.
 

وربما أفضل ما نختم به هذا التقرير هي المقولة الشهيرة للفيلسوف وعالم المنطق والمؤرخ والناقد الاجتماعي البريطاني "بيرتراند راسل" والتي يقول فيها: "مشكلة هذا العالم هي أن الأغبياء واثقون بأنفسهم أشد الثقة، في حين أن الأذكياء تملؤهم الشكوك".

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.