نبض أرقام
04:26 م
توقيت مكة المكرمة

2024/10/30
2024/10/29

أبيع الوهم فمن يشتري؟ .. المستثمرون ونظرية "الشيخ حسني" في سوق الأسهم

2019/03/29 أرقام - خاص

في العام 1983 نشر الأديب المصري الراحل "إبراهيم أصلان" روايته الشهيرة "مالك الحزين" والتي رغم كونها باكورة أعماله الروائية إلا أنها تعتبر واحدة من أهم وأبرز الروايات العربية المعاصرة. وبعد صدورها بعدة أعوام، وتحديداً في عام 1991 حولت الرواية إلى فيلم بعنوان "الكيت كات".
 

 

وفي واحد من أبرز مشاهد هذا الفيلم يتقابل بطله الكفيف الشيخ حسني مصادفة مع الشيخ عبيد الكفيف أيضاً، قبل أن يسأل الأخير الأول عن مكان شارع مراد معتقداً أن حسني مبصر. ولكن الشيخ حسني يمتنع عن إخباره بحقيقة أنه هو الآخر كفيف أيضاً ويأخذ بيده ويعبر به الشارع. وبينما يفعل ذلك يقول الشيخ حسني جملته الشهيرة:
 

"إذا لم يساعد "سليم النظر" مثلي "عاجز النظر" مثلك.. إذن قل على الدنيا السلام" ثم يمعن حسني في خداع الشيخ عبيد وإيهامه بأنه مبصر حين يحذره قائلاً: "انتبه يا أخي، أمامك عامود كهربا" وطبعاً لم تكن هناك أية أعمدة إنارة. وهكذا استرشد الكفيف بكفيف مثله.
 

هذا المشهد العبقري ربما هو أفضل وصف لطبيعة العلاقة بين جمهور المستثمرين في سوق الأسهم من جهة وبين المحللين وبيوت الخبرة وكل من يحاول التنبؤ بالمستقبل وتوقع اتجاه السوق من جهة أخرى.
 

هوس بالمستقبل
 

في القرن السادس قبل الميلاد كتب الفيلسوف الصيني "لاوتزه": "إن أولئك الذين يمتلكون المعرفة لا يتنبؤون. وأولئك الذين يتنبؤون لا يملكون المعرفة". عبارة منطقية جداً، أليس كذلك؟ ولكن رغم هذا نجد أن الأغلبية الكاسحة من جمهور المستثمرين مهووسة حرفياً بمحاولة تخمين المستقبل، وهذا ربما سببه الطريقة التي جرى بها تعليمهم كيفية التفكير في الاستثمار.
 

يقول رفيق "وارن بافيت" ونائبه "تشارلي مونجر": "بعض من أسوأ القرارات التجارية التي رأيتها على الإطلاق هي تلك التي اتخذت بناءً على توقعات مستقبلية وخصم التدفقات النقدية المستقبلية. هذه الحسابات المعقدة ذات الدقة الزائفة تبدو وكأنها تساعدك، ولكنها ليست كذلك".
 

الفكرة القائلة بأنه بإمكان المرء أن يتنبأ بالتحركات المستقبلية في سوق الأوراق المالية هي فكرة مجنونة إلى حد كبير. ورغم ذلك يحاول أغلبنا فعل ذلك إما بنفسه أو من خلال الاستعانة بآخرين.
 

 

لنفترض مثلاً أنك كمستثمر تتخذ عادة قراراتك الاستثمارية وفقاً لحالة المتغيرات التالية: في البداية تحاول توقع حالة الاقتصاد بشكل عام ثم مسار أسعار الفائدة، ثم تحاول التنبؤ بالقطاعات التي ستحقق أداءً جيداً في هذه البيئة، وأخيراً تحاول توقع الأسهم التي ستحقق أداءً جيداً داخل هذا القطاع.
 

لنفترض أيضاً أنك تفهم تماماً ما تفعله وأن دقة توقعاتك بشكل عام في السنوات الماضية تقترب من 70% (وهذا بالمناسبة أعلى كثيراً من معدلات الدقة الفعلية السائدة). الآن، في ضوء هذه المعطيات وبما أن كل توقع من توقعاتك الأربعة هو حدث مستقل بذاته، فإن احتمال أن تكون هذه التوقعات كلها صحيحة لا يزيد على 24%.
 

حتى لو كنت محظوظاً وتبين لاحقاً أن توقعاتك الأربعة صحيحة، فإن كسبك للمال لا يزال مرهوناً برد فعل باقي السوق. فنحن نجني المال فقط في حالة إذا كانت توقعاتنا إن ثبتت صحتها تخالف الإجماع السائد في السوق، وهذا ما يزيد الأمور تعقيداً.
 

هذا بالنسبة لأربعة متغيرات فقط فما بالك بالنماذج المالية التي يعدها المحللون ويحاولون خلالها التنبؤ بمستقبل الشركة والتي نجد أن أغلب مدخلاتها عبارة عن تنبؤات مستقبلية لأشياء مثل المبيعات والتكاليف وأسعار الفائدة وهامش الربح ومعدل الضرائب وما إلى ذلك. أي خطأ بسيط في أي من هذه التنبؤات كفيل بأن ينسف النموذج وبالتالي تصبح استنتاجاته أقل قيمة من الورق الذي كتبت عليه.
 

لا قيمة لها
 

حين نقول إن توقعات المحللين وما تسمى بالأسعار المستهدفة للأسهم الصادرة عن بيوت الخبرة لا قيمة لها، فهذا ليس رأياً وإنما حقيقة إحصائية بسيطة. فكافة الدراسات تقريباً التي تم إجراؤها حول هذا الشأن تظهر أن مهارة المحللين الماليين في توقع الأداء المستقبلي للأسهم ليست أفضل من مهارات شخص يرمي العملة المعدنية في الهواء.
 

يقول "جيمس أوشوغانسي" مؤلف كتاب "ما يعمل في وول ستريت" ورئيس شركة أوشوغانسي لإدارة الأصول، "إن توقعات المحللين لا قيمة لها... إذا نظرنا إلى التحركات التاريخية الكبيرة التي شهدها السوق، فسوف يكون من الصعب على مصدر موثوق به التنبؤ بأحداث رئيسية".
 

في كتابه الصادر في عام 2010 تحت عنوان "الكتاب الصغير في الاستثمار السلوكي" يشير "جيمس مونتيه" إلى أن توقعات المحللين للشكل الذي ستكون عليه أرباح الشركات بعد عامين عادة ما تكون خاطئة في 94% من الحالات. حتى في الآفاق الزمنية الأقل، كالـ12 شهراً القادمة مثلاً، نجد أنهم مخطئون في 45% من الحالات تقريباً.
 

 

وعند النظر إلى توقعاتهم لمعدلات النمو في نطاق خمس سنوات قادمة بالمقارنة مع النتائج الفعلية فإن الواقع المحبط يؤكد نفسه. بعبارة أخرى، ليس لدى المحللين أدنى فكرة عن الأرباح المستقبلية أو معدلات النمو في المدى البعيد. لكن توقعاتهم الفاشلة للأرباح المستقبلية قصة وتنبؤاتهم بشأن الأسعار المستهدفة قصة أخرى.
 

المستثمر البريطاني الشهير "بنيامين جراهام" قال ذات مرة: "إن التنبؤ بأسعار الأوراق المالية ليس جزءًا من التحليل المالي" ولكن هذا لا يمنع الكثير من المحللين بالخروج علينا بتخمينات بشأن الأسعار المستقبلية للأسهم، تكون عادة أعلى من الأسعار الحالية. على سبيل المثال، في بداية عام 2008، أشار متوسط توقعات المحللين للأسعار المستهدفة للأسهم في السوق الأمريكي إلى ارتفاعها بنسبة 24%، ومع ذلك انخفضت الأسعار بنسبة 40% بنهاية العام.
 

الخطير هو أنه حتى تلك التوقعات التي تتضح صحتها لاحقاً لا تثبت في الحقيقة أي شيء، لأنها عشوائية بشكل كبير، والدليل هو أنه من المستحيل تقريباً أن تجد أي محلل أو شركة تمتلك سجلاً مستداماً من التوقعات الصحيحة. الأمر أشبه بأن أعطيك بندقية و100 طلقة وأطلب منك التصويب على هدف معين. حتى لو لم تعرف شيئاً عن قواعد التصويب ستنجح في إصابة الهدف مرة أو عدة مرات من المائة.
 

أنت السبب
 

حين يتعلق الأمر بالأسعار المستهدفة للأسهم، فإن مشكلة المحللين هي أنهم يحبون كل شيء تقريباً. بعضنا ربما حظي بفرصة الاطلاع على التقارير الصادرة من بيوت الخبرة حول الأسعار المستهدفة للأسهم، والسؤال الآن لهؤلاء: ما النسبة التي تشكلها التوصية بالبيع بين إجمالي التوصيات الواردة بهذه التقارير؟
 

أغلبهم يوصي مثلاً بشراء 60% من الأسهم التي يغطونها والاستمرار في الاحتفاظ بـ30% منها، والـ10% المتبقية إما "محايد" أو "بيع". هذا معناه أن هذا التقرير إذا كان يغطي 100 سهم مثلاً فإن 9 من كل 10 أسهم سيرتفع سعرها، وتحقق أرباحاً لحامليها. هل هذا واقعي؟ أنت أدرى.
 

الفكرة باختصار هي أنه من غير المنطقي أن تستند قراراتنا الاستثمارية على قدرتنا وقدرة المحللين المشكوك فيها على توقع المستقبل. ربما سنرتاح وسنكون أفضل حالاً إذا اقتدينا بـ"جون مينارد كينز" حين سئل عن المستقبل فقال "نحن ببساطة لا نعرف".
 

 

وإذا كانت توقعات المحللين للأداء المستقبلي للأسهم فاشلة وثبت خطؤها آلاف المرات، فلماذا تستمر شركات البحوث وبيوت الخبرة في إصدار مثل هذه التوقعات؟ ببساطة هذه التوقعات هي معروض خلقه الطلب. بعبارة أخرى، إذا كانت الأغلبية الكاسحة من المستثمرين مهتمة بهذا النوع من المعلومات (التي لا معنى لها في الحقيقة) فبالتأكيد سيقوم شخص ما بتقديمها لهم.
 

والطريف هو أن الحجة الشهيرة التي يستخدمها المحللون في الدفاع عن أنفسهم حينما تتم مواجهتهم بعدم جدوى توقعاتهم هي أن هذا "ما يريده العملاء". وهذا للأسف صحيح.
 

في دراسة نشرتها مجلة علم النفس والأسواق المالية في عام 2002 تحت عنوان "تقديرات الخبراء: المحللون الماليون في مواجهة المتنبئين بالطقس" قام عالما النفس البولنديان "تاديوس تيسزكا" و"بيوتر زيلونكا" بدراسة الأعذار التي يقدمها كل من المحللين الماليين والمتنبئين في متابعة حالة الطقس حين تخيب توقعاتهم.
 

أوضحت الدراسة أن المتنبئين بالطقس كانوا متصالحين مع أنفسهم وصادقين أثناء شرحهم لأخطائهم. فقد كان العذر الأكثر تكراراً من جانبهم هو أن فشلهم هو نتاج قلة خبرتهم الشخصية، تبع ذلك اعترافهم بأنهم كانوا يحاولون التنبؤ بما لا يمكن التنبؤ به.
 

على الجانب الآخر، قدم المحللون الماليون مجموعة غريبة من الأعذار حين تمت مواجهتهم بتوقعاتهم الفاشلة. فعلى سبيل المثال كان العذر الذي قدمه معظمهم تقريباً هو أنه لا ينبغي أن يتم الحكم عليهم بناء على توقع فاشل واحد. في حين كان ثاني أكثر الأعذار تكراراً هو أن شيئاً ما حدث لم يكن في الحسبان، وهذا الشيء لم يشمله نموذجهم.
 

ما العمل؟
 

لكن إذا لم يكن من الحكمة أن نستثمر بناء على التوقعات والتنبؤات فكيف يجب أن نستثمر؟ وهذا سؤال ذكي بالطبع.
 

الأمر بسيط جداً وربما أفضل من وضحه هو المستثمر الأمريكي والمؤسس المشارك لشركة إدارة الأصول الأمريكية "أوك تري كابيتال مانجمنت" هوارد ماركس حين قال "لا يمكنك التنبؤ، وإنما يمكنك الاستعداد". وفي خطاب أرسله إلى عملاء شركته في نوفمبر/تشرين الأول من عام 2001 كتب "ماركس" التالي:
 

"هناك بعض الأشياء التي أرفضها، وأشياء أخرى أؤمن بها بشكل كامل. أما تلك التي أرفضها فتأتي في مقدمتها التوقعات الاقتصادية والتي أعتقد أنها لا تضيف أي قيمة. بينما تأتي في صدارة قائمة الأشياء التي أؤمن بها الدورات الاقتصادية والحاجة إلى الاستعداد لها."
 

 

قبل أن يتابع قائلاً: "البعض قد يعتقد أن ما قلته للتو متناقض. ففي النهاية أفضل طريقة للاستعداد للدورات الاقتصادية هي من خلال التنبؤ بها، وقد قلت إنه لا يمكن القيام بهذا. هذا صحيح فعلاً، فالاستثمار في جوهره يتعلق بالتعامل مع المستقبل، والأخير لا نعرف عنه الكثير. ولكن حدود معرفتنا المسبقة لا تحتم علينا الفشل ما دمنا نعترف بمحدوديتها ونتصرف وفقاً لذلك. برأيي، إن مفتاح التعامل مع المستقبل يكمن في معرفتك أين تقف الآن".
 

وهذا ما قصده بنيامين جراهام حيث قال: "إن التحليل المالي يجب أن يكون ثاقباً وليس تنبؤياً." أي أنه يجب على المستثمرين أن يكرسوا أوقاتهم لفهم طبيعة أعمال الشركة وقيمتها الجوهرية، بدلاً من تضييعها في محاولة التنبؤ بمستقبل لا يعلمه إلا الله.
 

ربما يكون من الضروري أن نذكرك بحقيقة أنه لا يحرك أسعار الأسهم سواء على المدى الطويل أو القصير سوى عاملين اثنين لا ثالث لهما وهما: الأساسيات ومعنويات المستثمرين. لذلك لا يجب أن يهتم المستثمر سوى بالتغيرات التي يشهدها هذان العاملان. ومرة أخرى نقول لك: "لا تستثمر أبداً بناء على التوقعات".

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.