نبض أرقام
06:23 م
توقيت مكة المكرمة

2024/10/30
2024/10/29

رغم أنف التكنولوجيا... كيف تؤثر الجغرافيا في الاقتصاد؟

2018/11/09 أرقام - خاص

"هل تظنون أن ألمانيا خاضت الحرب العالمية الثانية بسبب اعتقاد قادتها فعلًا بتفوق الجنس الآري، أو بسبب جنون "هتلر"، لا أعتقد ذلك، السبب الحقيقي كان موقعها الجغرافي الذي أثر عليها اقتصاديًا كثيرًا بالسلب".. هكذا كان رأي "هنري كيسنجر" حول تأثير الجغرافيا على الاقتصاد في كتابه الأشهر "الدبلوماسية".

 

فألمانيا تطل على بحرين هما بحر الشمال والبلطيق بزوايا ضيقة إلى حد بعيد، بينما كانت القوى المسيطرة حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية لديها شواطئ كبيرة على البحر المتوسط أو المحيط الأطلنطي بما سمح لها بميزة أكبر في مجال التجارة، بل وإعداد أساطيل الغزو البحري.

 

 

اقتصادات الجغرافيا

 

وكان "كيسنجر" بذلك يعبر عن علم ظهر في منتصف القرن التاسع عشر يتطرق لما يعرف بـ"اقتصادات الجغرافيا" أو "الجغرافيا الاقتصادية"، وبدأ أولًا بتناول طبيعة الأراضي الزراعية ونوعيتها وتطورها في ثلاثينيات القرن الماضي لتشمل أسباب إقامة المدن في مناطق بعينها.

 

وعلى الرغم من التطور التكنولوجي الذي طرأ على عالمنا المعاصر وأثر كثيرًا على النشاط الاقتصادي إلا أن الجغرافيا أبقت على تأثيرها العميق على الاقتصاد، بل وتمكنت بعض الشركات والدول من الاستفادة الاقتصادية بصورة أكبر من اتساع رقعة نشاطها جغرافيًا.

 

وتكشف دورية "الاقتصاد الجغرافي" التابعة لجامعة "أكسفورد" أن 80% من الأنشطة الصناعية حول العالم حاليًا تتم بمنطق "الإنتاج العالمي" أي إنتاج دولة لجزء من السلعة، أو حتى تقديمها لجانب من الخدمة، مقابل اكتمال أجزائها من دول أخرى.

 

وتحظى الشركات العابرة للجنسيات والحدود بوفورات 20-80% بسبب الانتشار الكبير لأنشطتها حول العالم، ولعل شركات خدمة العملاء البريطانية والأمريكية تشكل مثالا واضحا لذلك إذ تحظى بوفورات تصل إلى 90% بسبب استخدامها لمراكز اتصال في الهند تحديدًا وبعض الدول الأفريقية في بعض الأحيان.

 

وتضرب "أكسفورد" مثالًا بشركات السيارات الألمانية التي تحظى بميزة تنافسية في العديد من الأسواق بسبب نشرها لمصانعها ومراكز التجميع بشكل فعال، بما يعكس تطبيقًا فعالًا لمنطق "الإنتاج العالمي".

 

وتبرز شركة "بي.إم.دبليو" بشكل واضح في هذا المجال، إذ تنتشر خطوط إنتاجها في مختلف دول العالم، بما فيها: ماليزيا وروسيا وألمانيا والنمسا والصين والبرازيل والولايات المتحدة والمكسيك وتايلاند وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وبريطانيا.

 

 

التأثير على الدول

 

وتصل الوفورات التي تحققها الشركات الألمانية –وفقًا لـ"أكسفورد"- إلى 15-20% من تكلفة الإنتاج، وذلك لأكثر من سبب لعل أبرزها إنتاج السيارات بالقرب من أماكن استهلاكها، والقرب من موردي السلع الوسيطة والأولية.

 

ولذلك تقوم شركة مثل "أبل" على سبيل المثال بنشر مصانعها بشكل مختلف، حيث تأتي الصين في صدارة الدول المنتجة للجوال الشهير، يليها الولايات المتحدة، ثم بولندا. وتبدو صدارة الصين منطقية في ظل عوامل متعلقة بتكلفة العمالة والمواد الخام، وكذلك الولايات المتحدة بوصفها دولة الشركة الأصلية.

 

غير أن اختيار بولندا لتكون أكبر ثالث دولة منتجة لـمنتجات "آبل"، وبحجم إنتاج يصل إلى 3.6 مليون طن منتجات عام 2016، يؤكد على أهمية الجغرافيا الاقتصادية، حيث تتوجه منتجات خطوط إنتاج بولندا إلى أوروبا الغربية بالأساس بينما تتوجه منتجات الصين إلى بكين نفسها والولايات المتحدة ودول أخرى.

 

وينطبق كل ما سبق على مستوى الشركات، غير أن الجغرافيا تؤثر أول ما تؤثر على النشاط الاقتصادي للدول، وبطبيعة الحال فإن هناك بعض العوامل الطبيعية التي لا تزال مؤثرة بشدة، ومنها –على سبيل المثال- أن 84% من مساحة أوروبا سهول منبسطة، وهي المساحة الأكبر بين قارات العالم، ولا يفيد ذلك في الزراعة فحسب بل في نشر البنية التحتية بسهولة.

 

وفي مقابل أوروبا، تبدو دول مثل اليابان وإندونيسيا لتعكس أثر الجغرافيا السلبي على الاقتصاد، حيث تقلل الطبيعة الجبلية وأن كل دولة منهما تتشكل من أرخبيل من الجزر من درجة النمو برفعها لتكلفة النقل ولصعوبة مد البنية التحتية.

 

وتقدر دراسة لمعهد "ماساتشوستس" للتكنولجيا أن اليابان تنفق 30% أكثر من غيرها من الدول المتقدمة على عمليات النقل الداخلي، و10-15% في بناء البنية التحتية، وقرابة 10% في عمليات نقل الخامات والسلع الأولية بسبب الحاجة المستمرة للنقل البحري والبري سويًا.

 

البحار والمناخ

 

وتزداد الأزمة مع نقص الموارد الطبيعية الحاد الذي تعانيه اليابان، بما يفرض عليها اللجوء لإعداد السكك الحديدية رغم تكلفتها المرتفعة للغاية في البلاد بسبب طبيعتها الجبلية، لرغبتها في تقليص الاعتماد على النفط في نقل السلع باستخدام عربات النقل الكبيرة.

 

 

وتشير "أكسفورد" إلى أن الدول التي تتمتع بمنافذ واسعة على البحار الرئيسية أو المحيطات (أكثر من 300 كيلومتر) تحظى بفرص أكبر كثيرًا في النمو الاقتصادي، وتسهم تلك المنافذ البحرية في تحقيق معدل نمو سنوي 1-2% لتلك الدول.

 

ولا يقتصر الأمر هنا على الأنشطة المباشرة المرتبطة بالبحار والمحيطات كالصيد والتعدين والسياحة وغيرها، ولكنه يمتد ليشمل توفير البنية اللوجيستية لتدفق أسهل وأرخص للصادرات والواردات من وإلى الدولة.

 

وتبرز عوامل جغرافية أخرى مؤثرة خلافًا لطبيعة الأرض، وهي المناخ، فعلى الرغم من أن مقاطعة "سيبيريا" تمثل 77% من مساحة الأراضي الروسية تقريبًا، إلا أن 25% من السكان فقط يحيون فيها بسبب البرد القارص.

 

ولا يمنع هذا أهمية الإقليم الشديدة للاقتصاد الروسي، فوفقا لـ"بروكينز" يمد الإقليم روسيا بقرابة 80% من إنتاجها من النفط، و85% من إنتاجها من الغاز الطبيعي، و80% من إنتاج الفحم، و40% من إنتاج المعادن الثمينة والماس.

 

غير أن الجليد الذي يغطي مختلف أنحاء الإقليم في أوقات طويلة من العام يزيد تكلفة استخراج المواد الخام كثيرًا، فضلًا عن أنه يمنع استغلال الإقليم في أنشطة أخرى كالزراعة، ويحول دون استخدامها بكفاءة في الصناعة.

 

طبيعة السكان والاقتصاد

 

ولا تقتصر الجغرافيا الاقتصادية على الاهتمام بالعوامل الطبيعية، ولكنها تمتد لدراسة العوامل "الديموغرافية" (السكانية) أيضًا.

 

وخلافًا للمدارس السياسية التي ترى في النسيج الواحد للدولة عنصرًا لتماسكها، يعتبر التنوع السكاني، من عرق ودين ولغة وعادات وغيرها، عنصرًا داعمًا للاقتصاد بشدة لأنه يسهم في تنوع احتياجات سكان البلد الواحد وبالتالي ازدهار الأنشطة الاقتصادية فيه.

 

 

وعلى سبيل المثال، تشير دورية "أكاديمك" إلى أن قرابة 25% من السلع التي يقدمها الاقتصاد الهندي تعود بالأساس إلى التنوع الكبير في البلاد، والتي تضم قرابة 200 ديانة ومئات اللغات وعشرات الأعراق لكل احتياجاته ومتطلباته المختلفة.

 

كما أن للتنوع الديموغرافي دورًا أيضًا في ازدهار الصين التي تضم قرابة 70 ديانة وأكثر من 300 لغة ولهجة محلية، وتشير صحيفة "ويسترن شاينا سي" إلى أن الصين هي أكثر دولة في العالم تنوعًا في الغذاء، بما يعكس ثراء اقتصاديًا في هذا المجال على سبيل المثال.

 

وتأتي الولايات المتحدة التي يعتبرها "كيسنجر" "هبة الجغرافيا" فبمساحتها الشاسعة، أكثر من 9 ملايين متر مربع، وبتنوع كبير للغاية في المناخ الذي يسمح بزراعة كافة المحاصيل تقريبًا، وبموارد كبيرة من مختلف العناصر الأولية، وبأرض منبسطة في غالبيتها، وبسكان متنوعين في العرقيات والديانات، تمكنت واشنطن من تحقيق نموها الاقتصادي - وفقًا لـ"كيسنجر".

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.