نبض أرقام
06:22 م
توقيت مكة المكرمة

2024/10/30
2024/10/29

الإدارة ثم الإدارة ثم الإدارة .. قصة صعود نجم أنجح شركة إلكترونيات في العالم

2018/09/29 أرقام - خاص

في عام 1995، دخلت مجموعة من شاحنات محملة بكميات ضخمة من الجوالات وأجهزة التلفاز وغيرها من الأجهزة الإلكترونية وراء بعضها البعض من بوابات مصنع "جومي" قبل أن تقف في منتصف الساحة الخرسانية للمصنع وتقوم بتفريغ حمولتها على الأرض مباشرة.
 

وفي استقبال تلك الأجهزة وقفت مجموعة من العمال بمطارقهم الثقيلة التي راحوا ينزلون بها بكل قوة على كل جهاز أكثر من مرة لكي يضمنوا تدميره. وذلك قبل أن يقوموا بإشعال نار كبيرة ويلقوا بكل شيء فيها.
 

راقب هذا المشهد كل مسؤولي الشركة المصنعة بالإضافة إلى أكثر من ألفي عامل والذين أجهش بعضهم بالبكاء من هول ما رأوه. فالأجهزة التي تم تدميرها للتو جميعها سليمة، ولكن كل ما في الأمر هو أن رئيسهم التنفيذي شعر بالغضب بسبب انخفاض جودة المنتج الذي كان يخرج من مصانع الشركة في أوائل التسعينيات وأمر بتدمير مخزون الشركة بالكامل.
 

 

بعد أن تم تدمير منتجات تزيد قيمتها على 50 مليون دولار في يوم واحد وقف "لي كون هي" الرئيس التنفيذي لشركة "سامسونج" مخاطباً الحاضرين قائلاً : "نحن يجب أن نتغير مهما كان الثمن". ومن لحظتها رفعت "سامسونج" شعار "الجودة أولاً" وبدأت مسيرتها الواثقة نحو السيطرة على سوق الإلكترونيات العالمي.
 

قبل ما يقرب من 30 عاماً لم يكن هناك من يتوقع أن تستطيع شركة "سامسونج" التحول من كونها مجرد أحد صناع المعدات والأجهزة منخفضة التكلفة إلى واحدة من أبرز الشركات العالمية في مجال البحث والتطوير والتسويق والتصميم مع علامة تجارية تتجاوز قيمتها تلك الخاصة بشركات لها وزنها مثل "تويوتا" و"جنرال إلكتريك" و"بيبسي".
 

لكن الشركة الكورية الجنوبية نجحت في إعادة اختراع نفسها وتجاوز كل العقبات التي وقفت في طريقها لتنقل هيمنتها من السوق المحلي إلى الساحة العالمية. قصة صعود "سامسونج" تحمل في طياتها الكثير من الدروس المهمة للشركات المحلية الكبرى التي ترغب في أن تجد موطئ قدم لنفسها في السوق العالمي.
 

"تشايبول" .. تحدي الذات
 

تأسست مجموعة "سامسونج" في عام 1938، وهي أكبر كيان مؤسسي في كوريا الجنوبية. وبلغت إيراداتها في عام 2017 وحده حوالي 223 مليار دولار، ويعمل لديها حوالي 275 ألف موظف حول العالم، وفي نفس الوقت تعتبر أكبر "تشايبول" – تكتل تجاري عائلي – في كوريا الجنوبية.
 

تنشط سامسونج في مجموعة مختلفة من المجالات بما في ذلك الخدمات المالية وتكنولوجيا المعلومات والآلات وصناعة السفن والمواد الكيميائية والإلكترونيات. ولكن درة تاج المجموعة هي شركة "سامسونج إلكترونيكس" (وهي موضوع هذا التقرير) التي تأسست في عام 1969 بـ36 موظفاً فقط.
 

في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1987، خلف "لي كون هي" والده الذي توفي بسرطان الرئة وأصبح ثاني رئيس للشركة. في ذلك الوقت كانت سامسونج تسيطر بشكل كامل تقريباً على السوق المحلي، ولكن وضعها في الأسواق الخارجية كان مأساوياً بسبب ضعف جودة المنتج فضلاً عن المنافسة الشديدة من قبل اليابانيين.
 

 

في أوائل التسعينيات لاحظ "لي" تردد الشركات اليابانية في اعتماد التكنولوجيا الرقمية في صناعة الكاميرات والمعدات السمعية وغيرها من المنتجات الإلكترونية، ورأى أن هذه الفرصة تفتح الباب أمام سامسونج لتتجاوز منافسيها في هذا السوق الجديد.
 

حينها قرر "لي" الالتفات إلى الغرب. وفي عام 1993 أطلق ما تسمى "مبادرة الإدارة الجديدة" بهدف استيراد أفضل ممارسات الشركات الغربية المتعلقة بصياغة الاستراتيجية وإدارة المواهب وهيكل المكافآت والتعويضات، ودمج كل هذا في نموذج الأعمال الخاص بالشركة.
 

تشير دراسة نشرتها "هارفارد بيزنس ريفيو" في يوليو تموز 2011 إلى أن الهدف الرئيسي من هذه المبادرة كان لتحسين قدرات الشركة في مجالات التسويق والبحث والتطوير والتصميم، ولكن مع الحفاظ على نقاط قوتها الحالية: وتم تنفيذ هذه الاستراتيجية من خلال المضي قدماً في ثلاثة محاور هي:
 

1: تحديد الملائم من أفضل الممارسات لدى الشركات الغربية والتكيف معه وتنفيذه.
 

2: بذل جهود مطردة لجعل ثقافة سامسونج أكثر انفتاحاً للتغيير من خلال السماح للأجانب بالعمل بالشركة وإرسال الكوريين إلى الخارج.
 

3: التدخل لحماية الاستثمارات طويلة الأجل من الضغوط المالية قصيرة الأجل.
 

بهذه الطريقة وبخطوات ثابتة وواثقة وإن كانت بطيئة بعض الشيء قامت سامسونج ببناء هيكل إداري قوي تمكن من وضعها في غضون سنوات قليلة على الخريطة العالمية.
 

تبنت "سامسونج" بعض الممارسات التجارية التي تصطدم بشكل كبير مع الثقافة الكورية. فعلى سبيل المثال، كانت النظم الإدارية السائدة في قطاع الأعمال الكوري في أوائل التسعينيات متخلفة عن نظيرتها في الدول المتقدمة، لأنه بسبب بعض التقاليد الكونفوشيوسية المتعلقة باحترام كبار السن كان نظام الأجور والترقية يعتمد بشكل أساسي على الأقدمية.
 

 

لكن بداية من عام 1997، بدأت الشركة ببطء تستبدل هيكل الأجور المرتكز على الأقدمية من خلال نظام تعويضات ومكافآت يعتمد على الجدارة وذلك على غرار الأنظمة الشبيهة المعتمدة في شركات عالمية مثل "جنرال إلكتريك" و"إتش بي".
 

الفارق بين المبلغ الذي يحصل عليه الموظف المجتهد والمبلغ الذي يحصل عليه الموظف ذو الأداء الضعيف كان يزداد كل عام ليصل في النهاية إلى 50%. وبالمثل، اتخذت سامسونج خطوات للسماح لموظفيها المبدعين والمجتهدين بالتقدم بسرعة في سلم الترقيات من خلال تقصير أمد الحد الأدنى لعدد السنوات التي يجب أن يستقر فيها الموظف عند مستوى معين.
 

تبنت سامسونج أيضاً برنامجاً مشتركاً لتقاسم الأرباح تم تصميمه على غرار ذلك الخاص بشركة "إتش بي" يحصل بموجبه جميع الموظفين وليس فقط كبار المديرين (كما هو الحال في الكثير من الشركات العالمية) على مكافأة نظير الأداء المتميز تصل إلى 50% من الراتب.
 

استثمروا في رجالهم
 

في أواخر القرن التاسع عشر أرسلت حكومة الإمبراطورية اليابانية نخبة من ضباطها إلى الخارج لدراسة الممارسات والمؤسسات الغربية الناجحة. وعاد هؤلاء الضباط إلى اليابان بعد أن تعرفوا على نظام البريد البريطاني والنظام القضائي الفرنسي والنظام الأمريكي للتعليم الابتدائي والنظام العسكري الألماني، وهي الأنظمة التي قامت اليابان بتعديلها لتتناسب مع البيئة المحلية.
 

قصة "سامسونج" مع الشركات الغربية في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة كانت على نفس المنوال. حيث قامت الشركة الكورية الجنوبية بإرسال أفضل موظفيها إلى اليابان للحصول على درجات علمية متقدمة بالهندسة، وإلى الولايات المتحدة للتعرف بشكل أفضل على علوم التسويق والإدارة وإلى سنغافورة وهونج كونج ونيويورك للحصول على تدريب عالي المستوى في مجال التمويل.
 

وبعد عودتهم إلى كوريا، شغل هؤلاء الموظفون مناصب رئيسية في سامسونج وبدأوا في تنفيذ ما تعلموه ونقل خبراتهم للآخرين.
 

على مدار أكثر من عقدين حرصت سامسونج بشكل سنوي على إرسال نحو 200 موظف شاب موهوب إلى الخارج لمدة عام كامل، ولكن بعد أن يتجاوزا دورة تدريبية مدتها 12 أسبوعاً. المهمة الوحيدة لهؤلاء الموظفين خلال الأشهر الستة الأولى لهم بالخارج هي استكشاف لغة البلد الأجنبي وثقافته وبناء شبكات من العلاقات مع مواطنيها.
 

 

وفي خلال الأشهر الستة المتبقية، يطلب منهم تنفيذ مشروع مستقل من اختيارهم. في السنوات العشر الأولى من عمر هذا البرنامج كان يتم إرسال هؤلاء الموظفين إلى الدول المتقدمة، ولكن لاحقاً ذهبت أعداد كبيرة منهم إلى الدول الناشئة وخاصة الصين وبعض الدول الإفريقية.
 

باختصار، ضخت سامسونج استثمارات ضخمة من الوقت والمال في مواردها البشرية. فعلى سبيل المثال، كانت الشركة تنفق على عملية تدريب وإعداد كبار موظفيها حوالي 100 ألف دولار للفرد سنوياً، وهذا طبعاً بخلاف تكلفة الفرصة البديلة والمخاطر التي عرضت الشركة نفسها لها جراء إبعاد أفضل موظفيها عن أماكنهم لمدة 15 شهراً هي مدة التدريب.
 

تطلبت هذه الاستثمارات إجراء إدارة سامسونج لمقايضات جوهرية بين التكلفة في المدى القصير والفوائد المتوقعة على المدى الطويل، ورغم الاعتراضات التي أبداها عدد من كبار المديرين بسبب التكلفة الباهظة لهذه البرامج، وقف الرئيس التنفيذي للشركة بحسم وقوة وراء هذا النهج.
 

كان تركيز "لي" ينصب بشكل أساسي على المدى الطويل، حيث كان يعتقد أن تطوير سامسونج لمواردها البشرية في مجالات البحث والتطوير والتسويق والتصميم سيكون عاملاً حاسماً في نمو الحصة السوقية للشركة في السوق العالمي.
 

مثلما لم يتصور الكثيرون أن تصبح سامسونج يوماً ما لاعباً مهماً في سوق الإلكترونيات العالمي، شكك العديد من المراقبين في طموحات الشركة في مجال التصميم التكنولوجي. لكن هذه المرة أيضاً كان "لي" عازماً على تحدي الجميع، حيث قام في عام 1996 بإنشاء وتمويل معهد سامسونج للفنون والتصميم بالتعاون مع بارسون المدرسة الجديدة للتصميم.
 

انضم عدد كبير من خريجي المعهد الذين نجحوا في اجتياز دورة تدريبية مكثفة مدتها ثلاث سنوات إلى سامسونج للعمل كمصممين. وبعد ذلك أسست سامسونج معاهد لأبحاث التصميم في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا واليابان والصين والهند.
 

شركة عائلية ولكن..
 

بفضل هذه الاستراتيجية نجحت سامسونج في الجمع برشاقة بين التميز في التصميم والكفاءة التكنولوجية، وهو ما مكن الشركة الكورية الجنوبية التي كانت تتهم في السابق بأن منتجاتها مجرد تقليد رديء لأخرى أكثر جودة من رفع أسعار منتجاتها الإلكترونية بشكل مستدام.
 

"سامسونج" هي أكبر مجموعات الـ"تشايبول" الكورية الجنوبية والتي أسسها مجموعة من الأشخاص الطموحين. هذا بالمناسبة يسهل جداً ملاحظته إذا نظرنا إلى معاني الأسماء التي اختاروها لتلك التكتلات في مهدها: "دايو" (الكون العظيم)، و"هيونداي" (العصر الحديث)، وأخيراً "سامسونج (النجوم الثلاث).
 

بدأت سامسونج نشاطها على نطاق ضيق في صناعة المكرونة في عام 1938. ولكنها بفضل إدارتها الحكيمة التي كانت جريئة بما فيه الكفاية لتتخذ قرارات قد يراها البعض مجنونة توسعت وأصبحت تشمل تحت رايتها شبكة تضم 83 شركة مسؤولة عن أكثر من خُمس صادرات البلاد وتمثل ما يقرب من 17% من ناتجها المحلي الإجمالي.
 

من بين كل الشركات التابعة لمجموعة سامسونج تبرز "سامسونج للإلكترونيات " باعتبارها درة التاج. فالشركة التي بدأت بتصنيع أجهزة راديو الترانزستور أصبحت الآن من أكبر مصنعي الجوال الذكي وشاشات التلفاز في العالم.
 

 

ولهذا ليس من المستغرب حرص الكثير من البلدان على معرفة سر نجاح سامسونج. فالصين على سبيل المثال، تحرص على إرسال مبعوثين لدراسة ما يميز الشركة بقدر حرصها على إرسال الموظفين الحكوميين إلى سنغافورة لتعلم أسس وممارسات الحكومة الفعالة.
 

أخيراً، وصلت سامسونج إلى ما هي عليه الآن بفضل صبر وشجاعة إدارتها في الأوقات السيئة قبل الجيدة. فعلى الرغم من كونها شركة عائلية تديرها أسرة مؤسسها الراحل "لي بيونج تشول" إلا أنها نجحت في تجنب العلل التي تصيب عادة الشركات العائلية مما مكنها من إدارة أحد أنجح التحولات التي شهدها قطاع الأعمال العالمي.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.