تراجعت الأسواق المالية العالمية مع تصاعد المخاوف من اندلاع حرب تجارية شاملة، في ظل الرسوم الجمركية التي فرضتها الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، والتي قوبلت بردود مماثلة من جانب الصين، ما عزز حالة العزوف عن المخاطرة بين المستثمرين، وزاد من احتمالات دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة ركود.
وقال عدد من المحللين لـ أرقام، إن ردود الفعل في الأسواق كانت مبررة في ظل هذه التوترات، مشيرين إلى أن حالة عدم اليقين دفعت الأسواق إلى موجات بيع واسعة، خصوصاً في الأسواق الآسيوية الأكثر حساسية للتصدير.
ورأى المحللون أن السوق السعودي أظهر مرونة نسبية رغم التراجعات العالمية، متوقعين استمرار حالة التذبذب خلال الفترة المقبلة لحين اتضاح مسار المفاوضات التجارية بين القوى الكبرى.
الرسوم الأمريكية تشعل اضطرابات الأسواق العالمية
طارق الرفاعي المدير التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية
وأوضح طارق الرفاعي، المدير التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية، إن الرسوم الجمركية التي فرضتها الإدارة الأمريكية بنسبة 10% على الشركاء التجاريين، ورد الصين بفرض رسوم بنسبة 34% على الواردات الأمريكية، تسببا في موجة بيع حادة في الأسواق العالمية.
وأضاف الرفاعي أن توقعات سوق الأسهم على المدى القريب لا تزال غير مؤكدة، لافتاً إلى أن المؤشرات مثل ناسداك قد تسجل ارتدادات مؤقتة بعد دخولها منطقة السوق الهابطة، لكنها تظل معرضة لتقلبات ممتدة.
ورأى أنه من الأفضل توخِّي الحذر، والتركيز على إدارة المخاطر، مع إعطاء الأولوية للاستثمار طويل الأجل بدلاً من محاولة توقيت السوق.
تباطؤ الاقتصاد الأمريكي والتوترات التجارية
أحمد شمس الدين رئيس قطاع البحوث في إي إف چي هيرميس
من جهته، قال أحمد شمس الدين، رئيس قطاع البحوث في إي إف چي هيرميس، إن ردة فعل الأسواق العالمية تجاه التوترات التجارية كانت مبررة، خاصة في ظل مؤشرات متزايدة على تباطؤ الاقتصاد الأمريكي منذ نهاية عام 2023، لافتاً إلى تراجع مؤشرات الاستهلاك مثل مبيعات السيارات ومواد البناء والمطاعم خلال أشهر ديسمبر ويناير وفبراير، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.
وأوضح أن هذا التباطؤ يعد طبيعياً ضمن دورة اقتصادية تستغرق ما بين 5 إلى 7 سنوات، مؤكداً أن الأسواق المالية عادة لا تستجيب إلا بوجود "محفز" مثل التصعيد التجاري، الذي أدى إلى ردود فعل عنيفة، خاصة في الأسواق الآسيوية.
وأشار إلى أن التأثير الأكبر كان على دول تعتمد بشكل كبير على التصدير مثل كوريا الجنوبية وتايوان، التي تمثل صادراتها أكثر من 50% من الناتج المحلي، بينما تراجع اعتماد الصين على السوق الأمريكية من أكثر من 35% إلى نحو 17-18%.
وأضاف أن السوق السعودي بدأ يُظهر بعض إشارات التعافي، إلا أن حالة التذبذب قد تستمر لأسبوع أو عشرة أيام، إلى حين اتضاح مسار المفاوضات التجارية، مضيفاً أنه من المتوقع بناء تفاهمات، لأن استمرار التوتر لا يصب في مصلحة أي طرف.
تأثير مباشر على السوق السعودية والمستثمرين
حسين العطاس محلل مالي
وقال د. حسين العطاس، المحلل المالي، إن السوق السعودية باتت أكثر عرضة للتقلبات العالمية بعد انضمامها لمؤشرات الأسواق الناشئة، مشيراً إلى أن التوترات التجارية تسببت في انخفاض السيولة وموجات بيعية من قبل المستثمرين الأجانب.
وأوضح أن المستثمر المحلي اتجه إلى التحفظ والتوجه نحو قطاعات دفاعية كالاتصالات والرعاية الصحية، بينما قلص الأجانب انكشافهم خلال فترات ذروة التوترات التجارية.
وأشار إلى أن قطاعي الطاقة والبتروكيماويات كانا من بين الأكثر تضرراً، نتيجة تباطؤ الطلب العالمي وتراجع أسعار المنتجات، ما انعكس على شركات مثل "سابك" و"كيان" و"بتروكيم"، إضافة إلى أثر انخفاض أسعار النفط بسبب تباطؤ الاقتصاد الصيني وزيادة المعروض.
وذكر أن الطلب العالمي الضعيف الناتج عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين أدى أيضاً إلى إعادة تسعير توقعات النمو في قطاع البتروكيماويات، وهو ما انعكس سلباً على تقييمات المستثمرين لهذه الشركات.
وأكد العطاس أن المؤشر العام لتاسي أظهر إشارات على موجات تصحيح متزامنة مع الأسواق العالمية، وسط استمرار ارتباطه بالأخبار الخارجية، مرجحاً تواصل التذبذبات في حال استمرار التصعيد أو صدور بيانات اقتصادية سلبية من الدول الكبرى.
توجهات المستثمرين الأجانب: حذر متزايد رغم الترقية
أضاف العطاس أنه على الرغم من أن السوق السعودية تظل مدعومة بعوامل محلية مثل الإنفاق الحكومي والإصلاحات الاقتصادية، فإن الترابط مع الأسواق العالمية أصبح أكثر وضوحًا بعد الترقية إلى مؤشرات الأسواق الناشئة.
وقال إن الحرب التجارية زادت من تردد المستثمرين الأجانب تجاه الأسواق الناشئة، مشيراً إلى أن السوق السعودية، رغم ترقيتها في مؤشرات MSCI وFTSE، لا تزال تشهد تقلبات في التدفقات الأجنبية.
وأوضح أن المستثمرين الأجانب باتوا أكثر ميلًا لإعادة توزيع استثماراتهم بعيداً عن الأسواق عالية الانكشاف على النزاعات التجارية.
أثر السياسات الأمريكية على الموازنة والديون
أشار شمس الدين إلى أن الاقتصاد الأمريكي يواجه تحديات هيكلية تتعلق باستدامة خدمة الدين العام، خاصة في ظل ارتفاع أسعار الفائدة ومستويات الدين الحالية في دول مجموعة السبع.
وأوضح أن هناك حاجة لتوفير ما يعادل 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي لضبط الموازنة، وهو ما يتطلب إما تعديلاً جذرياً في هيكل الضرائب أو تقليصاً كبيراً في الإنفاق، مضيفاً أن خفض الضرائب الذي انتهجته إدارة ترامب قد لا يُسهم بفاعلية في سد الفجوة المالية.
وأكد أن هذه التحديات تخلق ضغوطاً كبيرة على السياسة النقدية، مشيراً إلى أن خفض الفائدة قد يكون ضرورياً لتحفيز الاقتصاد الأمريكي، لكنه في المقابل يعمّق أزمة الدين العام.
تأثير محدود على دول الخليج، ولكن مع ضغوط مالية
وقال شمس الدين، إن تأثير التباطؤ العالمي على دول الخليج سيكون غير مباشر، من خلال تراجع أسعار النفط الذي قد يضغط على الموازنات العامة، خصوصاً في السعودية والكويت.
وأضاف أن السعودية ستواجه ضغوطاً تمويلية إذا استمرت أسعار النفط عند مستويات منخفضة، لكنه شدد على أن المملكة لا تزال في وضع مالي قوي، مع نسبة دين إلى الناتج المحلي أقل من 30%، ما يمنحها مرونة للاقتراض لتمويل مشاريعها.
وأشار إلى أن السعودية بحاجة إلى تنشيط سوق أدوات الدين كجزء من خططها لتمويل مشاريع البنية التحتية وبرامج التنوع الاقتصادي، لافتاً إلى أن حجم السوق الحالي لا يتجاوز 3% - 4% من الناتج المحلي، بينما يُفترض أن يتراوح بين 12% - 15%.
وأضاف أن ارتفاع مستويات الدين إلى 50% - 60% من الناتج المحلي لا يشكّل تهديداً كبيراً في ظل قوة المركز المالي للمملكة، مشدداً على أهمية تطوير سوق الدين المحلي كوسيلة لتوفير السيولة وتعزيز نمو القطاع الخاص، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة.
استمرار زخم الإصلاحات في السعودية.. وفرص استثمارية واعدة
وأكد شمس الدين أن برامج الإصلاح الاقتصادي في السعودية تمثل ضرورة استراتيجية وليست خياراً، موضحاً أن التحول الاقتصادي في المملكة مدفوع بعوامل ديموغرافية، منها نسبة الشباب المرتفعة وزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل.
وأضاف أن القطاع العقاري في السعودية يمثل فرصة كبيرة للنمو، مع حاجة البلاد إلى أكثر من مليون وحدة سكنية إضافية بحلول 2030، في ظل محدودية مساهمة المشاريع الحكومية الكبرى مثل روشن والجدية، التي لن تغطي سوى نصف هذه الحاجة.
وأشار إلى أن السوق العقاري لا يزال في مرحلة مبكرة، إذ لا يوجد سوق ثانوي حقيقي للعقار، ما يفتح المجال أمام فرص استثمارية طويلة الأجل.
وفيما يخص القطاعات الواعدة، قال إن البنوك السعودية تتمتع بنمو قوي وعوائد مرتفعة على رأس المال تتراوح بين 10% و15%، وهي تُقيّم حالياً بأقل من قيمتها العادلة، ما يجعل أي تراجعات في الأسعار فرصة للشراء.
كما لفت إلى أن قطاع المرافق أيضاً من القطاعات المستقرة والواعدة، داعياً إلى التركيز على التنويع داخل السوق، وزيادة الاستثمارات المؤسسية، بما فيها التمويل غير المصرفي الذي سيلعب دوراً أكبر مستقبلاً في معالجة التحديات التمويلية الناتجة عن تقلبات أسعار النفط.
المفاوضات التجارية… تفاؤل حذر وتوقعات بتهدئة التوترات
وقال شمس الدين، إنه من المرجّح أن تشهد المرحلة المقبلة تفاهمات جزئية أو تسويات مؤقتة على صعيد التوترات التجارية، لافتاً إلى أن استمرار النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين بدون اتفاق له آثار سلبية عميقة على الاقتصاد العالمي.
وأضاف أن الأسواق تنتظر مؤشرات على وجود تقدم في المفاوضات، مشيراً إلى أن ما يحدث حالياً هو بمثابة "Trigger" أو محفّز لحركة الأسواق، حيث تلجأ الأسواق إلى هذه النقاط الحرجة لتبدأ موجات من التصحيح أو إعادة التسعير.
وأوضح أن إدارة الرئيس الأمريكي تسعى إلى ممارسة ضغط تفاوضي ضمني، لكن من غير المرجح استمرار هذا النهج على المدى الطويل، نظراً لتكلفته الاقتصادية العالية، خصوصاً مع تباطؤ واضح في مؤشرات الاقتصاد المحلي.
وأكد أن من مصلحة جميع الأطراف التوصل إلى تفاهمات تقي الأسواق العالمية من أزمة أعمق، مضيفاً: "ربما نرى أخباراً إيجابية أو تفاهمات جزئية قبل اجتماعات كبرى، مثل التي ستُعقد في التاسع من الشهر الحالي، وهو ما قد ينعكس سريعاً على أداء الأسواق".
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: