نبض أرقام
02:32 م
توقيت مكة المكرمة

2024/10/30
2024/10/29

"سيرين" .. الفاتنة التي أغوت كثيرًا من مستثمري سوق الأسهم

2019/10/18 أرقام - خاص

في الأساطير اليونانية القديمة، هناك حورية بحرية تسمى "سيرين" كانت تعيش قرب جزيرة صخرية في وسط البحر، وكان لها رأس امرأة وجسد طير، تغوي البحارة الذين يبحرون بالقرب من الجزيرة بغنائها الساحر وألحانها التي لا تقاوم، ولكن صوتها سرعان ما يذهب بعقولهم ويثير غضبهم مما يدفعهم إلى تحطيم سفنهم والقفز في البحر والموت غرقاً.

 

 

لكن الشاعر الإغريقي "هوميروس" في قصيدته الملحمية "الأوديسة" حكى لنا قصة الرجل الوحيد الذي نجا بعد سماع غناء "سيرين". فبعد أن انتصر في حرب طروادة وفي رحلة رجوعه مع طاقمه إلى جزيرة إيثاكا علم "أوديسيوس" أنه سيضطر للإبحار بالقرب من الجزيرة التي تسكن بجوارها حوريات "سيرين"، وكان يدرك جيداً أن هذه مخاطرة عظيمة.

 

الأغنية الأخيرة

 

قبل أن يصل إلى الجزيرة، أمر "أوديسيوس" طاقم السفينة بسد آذانهم بالشمع حتى لا يسمعوا غناء "سيرين" ويقعوا تحت تأثيره المدمر. وبالفعل سد طاقم السفينة بالكامل أذنيه باستثناء "أوديسيوس" الذي دفعه فضوله لسماع غناء سيرين ومعرفة كيف يبدو صوتها.

 

لكن لكونه يعرف جيداً تأثير صوت سيرين على عقول الرجال وخوفه من أن يتسبب في أن يلقى الجميع حتفه، أمر "أوديسيوس" رجاله بربطه بالحبال في ساري السفينة وعدم سد أذنيه، وشدد عليهم في الوقت نفسه ألا يستجيبوا أبداً لتوسلاته إذا طلب منهم فك وثاقه، وأن يتركوه هكذا إلى أن يبحروا بعيداً عن سيرين.

 

 

وصلت السفينة إلى حيث توجد سيرين التي بمجرد أن بدأت غناءها الساحر، صاح "أوديسيوس" من على ساري السفينة يتوسل ويرجو رجاله أن يفكوا قيده ويطلقوا سراحه لكي يقفز من السفينة ويبحر ناحية سيرين، ولكنهم وطبقاً لأوامره السابقة لم يأبهوا لتوسلاته وتركوه مقيداً بالحبال حتى أبحروا بعيداً عن سيرين وجزيرتها.

 

أصبح "أوديسيوس" أول رجل ينجو بعد سماع غناء سيرين لأنه كان حكيماً بشكل كاف ليدرك أن قوة إرادته مهما بلغت لم يكن بوسعها التغلب على الإغراء الذي كان على وشك مواجهته، ولذلك صمم مسبقاً خطة للبقاء في المسار والحفاظ على حياته وحياة رجاله.

 

مات "أوديسيوس" ومات "هوميروس" ومر ما يقرب من 2800 عام على هذه الحادثة و"سيرين" لا تزال حاضرة حتى يومنا هذا تشدو بأغانيها الفاتنة ولكنها هذه المرة تحاول إغواء مستثمري سوق الأسهم بدلاً من البحارة.

 

مغريات السوق

 

سوق الأسهم هو بالأساس بيئة صاخبة ومتقلبة ومزعجة في بعض الأحيان، والمستثمر مطالب بأن يدير دفة استثماراته يومياً في رحلة طويلة جداً قد تستمر لسنوات عبر بحار مضطربة.

 

وفي بيئة مثل هذه يصبح التحدي الأكبر للمستثمر هو القدرة على فرض الانضباط على نفسه في مواجهة هذا السيل من الأخبار المغرية والمتغيرة باستمرار والتي يتعرض لها على مدار الساعة والتي تشعره بأن عليه اتخاذ قرارات عاجلة بالبيع أو الشراء.

 

 

مع كل إشاعة تخرج تحت عناوين من نوعية "السوق في طريقه للهبوط" أو "السوق يستعد لارتفاعات جديدة" يخشى جمهور المستثمرين من فقدان الفرصة أو فوات الأوان ويشعر بأن عليه أن يفعل شيئاً ما، ليفقد في النهاية قدرته على المقاومة أمام هذه الإغراءات.

 

في علم التمويل السلوكي يطلق على هذه الظاهرة اسم "نظرية الندم" والتي تشير إلى أن المستثمرين يجدون أنه من السهل عليهم المشي خلف القطيع والشراء بسعر عال سواء كان ذلك عقلانيا أم لا. وإذا حدث وانخفض السعر فسيحدثون أنفسهم قائلين: لم أخسر وحدي لقد حدث ذلك للجميع.

 

ولذلك أشار المستثمر البريطاني "بينجامين جراهام" إلى أن المستثمر الذكي بحاجة إلى امتلاك إرادة قوية تحول دون مشيه خلف الحشود.

 

يوضح الرسم البياني التالي كيف تتغير مشاعر المستثمرين مع تحرك أسواق الأسهم خلال دوراتها الطبيعية.

 

 

تطور وتغير مشاعر المستثمرين مثيرة جداً للاهتمام في الحقيقة، فعندما يرتفع السوق تسيطر على الجميع حالة من التفاؤل الشديد، وبمجرد أن يهبط يتحول التفاؤل إلى كآبة. وعادة ما يفشل المستثمرون الأفراد تحديداً في سوق الأسهم بسبب افتقارهم للانضباط واستسلامهم لعواطفهم وتركها تحركهم بهذا الشكل.

 

حتى أنت!

 

حتى عام 2000 كان "ستانلي دراكن ميلر" أحد أفضل مديري صناديق التحوط أداءً في تاريخ وول ستريت. في بداية ذلك العام قال "ميلر" لفريقه إنه يتوقع حدوث موجة بيع كبيرة في سوق الأسهم وتحديداً في قطاع التكنولوجيا ستأكل الأخضر واليابس.

 

ورغم ذلك ارتكب هذا المخضرم – الذي يمكن اعتباره أحد أفضل المستثمرين في التاريخ – غلطة كلفته المليارات، حين فشل في منع نفسه من الاستجابة للمغريات ليدخل السوق في الوقت الخطأ تماماً، رغم أنه كان للتو يحذر فريقه من موجة بيع قادمة.

 

 

في مقابلة أجريت معه في نوفمبر 2013 حكى "ميلر" ما حدث معه وقال الآتي: "في شهر مارس من عام 2000 قمت بضخ جزء كبير من أموال الصندوق في شركات التكنولوجيا، وحينها كانت أسعار الأسهم في قمتها، وكان ذلك قراراً عاطفياً حيث إنني لم أستطع تحمل حقيقة أن هذه الأسهم ترتفع بشدة وأنا جالس أشاهد. للأسف، لقد خالفت كل حكمة تعلمتها كمستثمر على مدار 25 عاماً".

 

"كنت قد اشتريت في نفس القطاع في منتصف عام 1999، وبعت كل شيء وخرجت في يناير من عام 2000 محققاً مكاسب جيدة جداً. ولكنني بعدها رأيت من يحقق حوالي 5% يومياً في السوق، وللأسف لم استطع كبح جماح نفسي. فقمت بضخ مليارات الدولارت ولسوء حظي كان ذلك قبل الهبوط بدقائق".

 

هذه القصة إن دلت على شيء فإنما تدل على أنه لا يوجد أحد كبير على الوقوع في فخ "سيرين" التي نسمع طوال الوقت أغنياتها في مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات والجلسات الخاصة وحتى على شاشات التلفاز على ألسنة  "بعض" المحللين والخبراء.

 

كيف السبيل؟ .. دلني

 

يجب أن يحمي المستثمرون أنفسهم من أغاني "سيرين" التي هي في الحقيقة عبارة عن أخبار خادعة وإن كانت حقيقية عبر وضع خطة استثمارية محددة والتمسك بها حين تسوء الأمور ويتخطف الخوف الجميع. فالأخبار تتغير يومياً وبشكل سريع في حين أن قيمة أصول الشركة وأعمالها التجارية تتغير ببطء.

 

عندما كتب هوميروس "الأوديسة" في القرن الثامن قبل الميلاد ، لم يكن يعرف أن قصيدته الملحمية كانت تحمل درسًا مهمًا في مجال الاستثمار وهو أهمية التخطيط والانضباط في مواجهة المغريات وأغاني "سيرين" الفتاكة التي يتعرض لها المستثمرون كل يوم.

 

 

أخيراً، إذا كان هناك عامل واحد مشترك بين مستثمري سوق الأسهم الناجحين حول العالم فهو أنهم جميعاً يمتلكون حداً أدنى من الاستقرار النفسي والانضباط العاطفي، والذي يوفر لهم قدراً معقولاً من المقاومة في مواجهة المغريات. فالاستثمار بالأسهم يستلزم دائماً تحمل درجة من درجات المخاطرة، وفي حين أنه لا أحد يملك السيطرة على السوق، يمكن أن نتعلم كيفية إدارة عواطفنا، لأن هذا هو سر النجاح في الاستثمار.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.