نبض أرقام
02:36 م
توقيت مكة المكرمة

2024/10/30
2024/10/29

الإبداع في الاحتيال على المساهمين .. البند الذي يثق فيه المستثمرون أكثر من اللازم

2019/09/13 أرقام - خاص

"بسم الله الرحمن الرحيم. أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي. وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلًا وسعي في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عوراتهم، وأكتم سرّهم... وأن أثابر على طلب العلم، أسخِّره لنفع الإنسان لا لأذاه... والله على ما أقول شهيد."

 

تلك كانت مقطتفات من قسم أبقراط الطبي الذي أقره المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي المنعقد في الكويت في يناير من عام 1981، ذلك القسم المهيب الذي يجتمع طلاب كلية الطب عند تخرجهم ليحلفوا به، فينطقون تلك الكلمات بصوت واثق ورؤوس مرفوعة.

 

 

ربما ينبغي تدشين قسم شبيه بقسم أبقراط لـ"بعض" مديري الشركات المدرجة بسوق الأسهم. قسم يحلفون فيه على عدم الإضرار بمصالح المستثمرين عن عمد، ويقسمون فيه كذلك على الامتناع عن خداع المساهمين وتضليلهم سواء كان ذلك بتصريحات كاذبة أو ببيانات مضللة أو متلاعب بها.

 

لكن بالنظر إلى واقع السوق اليوم يبدو هذا حلماً بعيد المنال. ولكن إلى أن يتحقق ذلك يجب على المستثمرين والمساهمين أن ينتبهوا أشد الانتباه للحيل التي تلجأ إليها بعض إدارات الشركات المدرجة بالسوق لخداعهم وتضليلهم حول حقيقة الوضع المالي لشركاتهم، مثل تلك الحيل التي سنناقشها في تقرير اليوم.

 

الثغرة

 

يعتمد الكثير من المستثمرين في سوق الأسهم على مكرر الربحية كمؤشر شبه وحيد لتحديد مدى جاذبية السهم، وهو ما يقودهم في أغلب الأحيان إلى استنتاجات خاطئة. وبنفس الطريقة أيضاً يبالغ بعض المستثمرين في التركيز على التدفقات النقدية التشغيلية (CFFO) باعتبارها المؤشر الأهم على الصحة المالية للشركة.

 

لكن لا ينصح أبداً بالاعتماد المبالغ فيه على التدفقات النقدية التشغيلية كمؤشر على مدى قوة ومتانة الوضع المالي للشركة لأن هذا البند تحديداً من السهل جداً التلاعب به – ليبدو أفضل مما هو عليه في الواقع – من قبل الكثير من الشركات وبالأخص الشركات النشطة في عمليات الاستحواذ.

 

 

ببساطة يوجد هناك سر مظلم لا تريد هذه الشركات أن يعرفه المستثمرون، سر يتعلق بثغرة محاسبية تمكن الشركات النشطة في عمليات الاستحواذ من تحسين تدفقاتها النقدية التشغيلية فقط من خلال الاستحواذ على شركات أخرى. للوهلة الأولى يبدو هذا الكلام غير منطقي، لأن الشركة المستحوذة من المفترض أنها دفعت المال لشراء الشركة المستحوذ عليها، فكيف لتلك المعاملة أن تزيد من تدفقاتها النقدية التشغيلية؟

 

الفكرة بسيطة جداً ويسهل فهمها إذا عرفنا أن التدفقات النقدية بشكل عام تنقسم إلى ثلاثة أقسام: تشغيلية (خارجة وداخلة) واستثمارية (خارجة وداخلة) وتمويلية (خارجة وداخلة). حين تقوم الشركة "س" مثلاً بالاستحواذ على الشركة "ص" فإن الأولى تدفع ثمن عملية الاستحواذ دون أن تؤثر على تدفقاتها النقدية التشغيلية لأن الأموال المدفوعة في هذه الصفقة تسجل في قسم التدفقات الاستثمارية وليس التشغيلية.

 

تدفقات نقدية من الهواء!

 

لحد اللحظة لم تتأثر التدفقات النقدية التشغيلية للشركة "س"، ولكن كيف تزيد؟ بمجرد أن تتم عملية الاستحواذ تصبح أنشطة الشركة المستحوذ عليها جزءاً من عمليات الشركة المستحوذة. فعلى سبيل المثال، تسجل مبيعات الشركة المستحوذ عليها كإيراد في بيان الدخل الخاص بالشركة المستحوذة.

 

وفي نفس الوقت يمكن للشركة المستحوذة أن تعزز من تدفقاتها النقدية التشغيلية بشكل سريع من خلال تصفية بعض أصول (تحصيل المستحقات وبيع المخزون) الشركة المستحوذ عليها والتي تخضع لسيطرتها الآن.

 

 

عندما تقوم الشركة المستحوذ عليها بجمع المال من العملاء، تسجل هذه الأموال كتدفقات نقدية تشغيلية في البيانات المالية الخاصة بالشركة المستحوذة. وهكذا تتمكن الشركة "س" من خلق تدفقات نقدية تشغيلية داخلة دون أن تتكبد أي تدفقات تشغيلية خارجة. ولكن ما المشكلة في ذلك؟

 

انظر، في الشركات الطبيعية التي تسعى لتنمية أعمالها بشكل عضوي، تنفق الشركة أولاً جزءاً من تدفقاتها النقدية التشغيلية (تدفقات خارجة) من أجل بناء أعمال جديدة أو توسعة أعمالها الحالية، ثم تجني لاحقاً نتاج تلك الخطوة في صورة تدفقات نقدية تشغيلية داخلة. ولكن الشركات النشطة في عمليات الاستحواذ يمكنها تحسين تدفقاتها النقدية التشغيلية دون أن تنفق ولو ريالا واحدا من تدفقاتها التشغيلية، لأن القواعد المحاسبية بها ثغرة تمكنها من ذلك.

 

هذه الثغرة المحاسبية هي السبب في أن الشركات التي تنمو من خلال عمليات الاستحواذ غالباً ما تبدو تدفقاتها النقدية التشغيلية بشكل أفضل مقارنة مع الشركات التي تنمو عضوياً.

 

"تايكو" .. أم الخدع

 

من أشهر الشركات التي استغلت تلك الثغرة في خداع المستثمرين هي شركة الأنظمة الأمنية الآيرلندية التي تتخذ من نيوجيرسي الأمريكية مقراً لها "تايكو إنترناشونال". ببساطة، استخدمت الشركة أنشطة الاستحواذ في بناء واحدة من أشهر عمليات الاحتيال في تاريخ السوق الأمريكي.

 

في الفترة ما بين عامي 1999 و2002 قامت "تايكو" بالاستحواذ على أكثر من 700 شركة (وهذا ليس خطأ مطبعيًا) بما مجموعه 29 مليار دولار. بعض هذه الاستحواذات كانت على شركات كبيرة ولكن معظم الشركات التي تم الاستحواذ عليها كانت صغيرة.

 

 

تخيل حجم التأثير الذي يمكن أن تحدثه الثغرة التي تحدثنا عنها بالأعلى مع 700 شركة بقيمة 29 مليار دولار! كما هو متوقع، ظهرت التدفقات النقدية التشغيلية لـ"تايكو" في أفضل حالاتها خلال تلك السنوات كما يوضح لنا الجدول التالي، ولكن ذلك التحسن الذي اعترى التدفقات التشغيلية للشركة لم يكن له علاقة بأعمالها الأساسية.

 

التدفقات النقدية التشغيلية لشركة "تايكو" (الأرقام بالمليون دولار)

العام المالي

1999

2000

2001

2002

التدفقات النقدية التشغيلية

3550

5275

6926

5696

 

لذلك لا ينصح أبداً بأن يعتمد المستثمر بصورة عمياء على التدفقات النقدية التشغيلية كمقياس لأداء الشركة، خصوصاً إذا كانت الشركة نشطة في عمليات الاستحواذ التي تمكنها من خلق دفعة غير مستدامة لتلك التدفقات.

 

الأفضل في هذه الحالة هو أن يقوم المستثمر بإزالة أثر العمليات الاستحواذية من خلال طرح النفقات الرأسمالية بالإضافة إلى النقد المدفوع في عمليات الاستحواذ من التدفقات النقدية التشغيلية للشركة ليعرف حقيقة وضعها المالي، تماماً كما سنفعل في الجدول التالي مع "تايكو":

 

التدفقات النقدية التشغيلية لـ"تايكو" بعد إزالة أثر عمليات الاستحواذ (الأرقام بالمليون دولار)

العام المالي

1999

2000

2001

2002

التدفقات النقدية التشغيلية المبلغ عنها

3550

5275

6926

5696

طرح النفقات الرأسمالية

(1632)

(1704)

(1798)

(1709)

طرح الإنشاءات الجارية

--

(111)

(2248)

(1146)

التدفقات النقدية الحرة

1918

3460

2880

2841

طرح النقد المدفوع في عمليات الاستحواذ

(5135)

(4791)

(11851)

(3709)

التدفقات النقدية الحرة بعد إزالة أثر الاستحواذات

(3217)

(1331)

(8971)

(868)

 

يوضح الجدول السابق كيف أنه إذا أزلنا أثر عمليات الاستحواذ فسنجد أن "تايكو" كانت في الحقيقة تسجل تدفقات نقدية سلبية من أعمالها الأساسية، ولكن بفضل عمليات الاستحواذ تمكنت الشركة من جعل تدفقاتها النقدية التشغيلية تبدو أفضل مما هي عليه في الواقع.

 

من استغلال الثغرات إلى الاحتيال

 

لم تكتف "تايكو" باستغلال تلك الثغرة المحاسبية، وتمادت في الأمر حتى تورطت في الاحتيال، وذلك من خلال جعل قسم التدفقات النقدية الاستثمارية ساحة لإخفاء تكاليف جذب العملاء الجدد. ولكن يحسب لها أنها فعلت ذلك بإبداع منقطع النظير.

 

ابتكرت "تيكو" مخططاً جديداً لتحسين تدفقاتها النقدية التشغيلية أكثر. فوفقاً لبيانات لجنة الأوراق المالية والبورصات بالولايات المتحدة، نجحت "تايكو" خلال الفترة ما بين عامي 1999 و2002 في رفع قيمة تدفقاتها النقدية التشغيلية بشكل وهمي بنحو 719 مليون دولار باستخدام مخطط احتيالي مدروس بعناية.

 

إليك كيف فعلتها: "تايكو" كما أشرنا سابقاً هي شركة مختصة ببناء الأنظمة الأمنية. كانت الشركة تعطي عمولة قدرها 800 دولار لوكلاء خارجيين لا يعملون لديها مقابل كل عميل يأتون به إلى الشركة.

 

 

لكن الغريب هو أن المديرين التنفيذيين لـ"تايكو" لم يعاملوا الأموال التي يدفعونها لهؤلاء الوكلاء كتدفقات تشغيلية كما تعامل تكاليف جذب العملاء العادية في كل الشركات، بل قاموا بدلاً من ذلك بتسجيلها كتدفقات استثمارية، باعتبار أنها ليست عمولة ولكن تكلفة استحواذ على العقود!

 

لم يقف الأمر هنا. فمقابل كل عقد تم شراؤه من الوكلاء، طلبت الشركة من كل وكيل أن يدفع لها رسوما قدرها 200 دولار مقدماً عن كل عميل يأتي به سمتها رسوم اتصال. ولكن بالطبع لن يكون الوكلاء سعداء بتلك الرسوم. لتعويضهم عن ذلك قامت "تايكو" برفع العمولة التي تدفعها لهم من 800 دولار إلى 1000 دولار.

 

للوهلة الأولى تبدو هذه الخطوة مربكة. ما الذي تغير؟ ففي الحالتين سيحصل الوكيل في النهاية على 800 دولار من الشركة. بالنسبة للوكلاء لا يوجد هناك فارق، ولكن بالنسبة للشركة الفارق كبير، وإلا لما أقدمت على تلك الخطوة.

 

دقق النظر في الجدول التالي:

 

تصنيف "تايكو" الإبداعي لعمولات الوكلاء (بالدولار)

البند

الوضع الطبيعي

حيلة "تايكو"

التصنيف بقائمة التدفقات النقدية

ثمن شراء العقد من الوكيل

800

1000

تدفقات استثمارية خارجة

رسوم يدفعها الوكيل لـ"تايكو"

لا يوجد

(200)

تدفقات تشغيلية داخلة

صافي ما تدفعه "تايكو" للوكيل

800

800

--

 

إليك حل اللغز: "تايكو" حين تدفع الألف دولار إلى الوكيل سيسجل هذا المبلغ في قوائمها المالية كتدفق نقدي استثماري خارج، أما الـ200 دولار التي أعطتها كزيادة للوكيل ليدفعها لها كرسوم ستقوم بتسجيلها كتدفقات نقدية تشغيلية داخلة! أي أن الشركة ببساطة أعطت الـ200 دولار للوكيل ليردها إليها مرة أخرى فقط من أجل أن تحسين تدفقاتها النقدية التشغيلية.

 

 

الآن تخيل تأثير تلك الممارسة على التدفقات النقدية التشغيلية للشركة على مدار خمس سنوات وباستخدام مئات الآلاف من العقود. النتيجة هي زيادة وهمية للتدفقات النقدية التشغيلية بمئات الملايين من الدولارات كما أشارت الهيئات التنظيمية الأمريكية.

 

أخيراً، إن المخطط الذي نفذته "تايكو" والمخططات الشبيهة به كان يسهل على المستثمر المتمرس أن يكشفه لو دقق النظر إلى قائمة التدفقات النقدية ونظر إليها بعين الشك ولو قليلاً. فمجرد إلقاء نظرة أولية على تلك القائمة كفيل بأن يلفت انتباه المستثمر الذكي إلى أن هناك شيئا ما غير منطقي وهو ما سيدفعه للبحث أكثر وراء الأمر.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.