المركبات ذاتية القيادة: بين وعود التكنولوجيا ومخاوف السلامة

تشهد بعض المدن الأمريكية، مثل سان فرانسيسكو وفينيكس ولوس أنجلوس، انتشارًا متزايدًا لسيارات الأجرة ذاتية القيادة، التي تجوب الطرق دون وجود سائق بشري مسؤول عن السلامة.

- والشاهد هنا أن هذه التكنولوجيا لم تعد مجرد فكرة مستقبلية أو مشروع تجريبي، بل أصبحت واقعًا ملموسًا يمكن للركاب تجربته بأنفسهم، بل وحتى مشاهدته كأحد معالم السياحة التكنولوجية في مدينة سان فرانسيسكو.

- غني عن القول إن المركبات ذاتية القيادة تقدم العديد من الفوائد المحتملة، أبرزها تعزيز السلامة المرورية، وتقليل الحوادث الناجمة عن الأخطاء البشرية، فضلاً عن توفير وسائل نقل أكثر راحة وسهولة، خصوصًا للأفراد غير القادرين على القيادة بأنفسهم.

- كما يُتوقع أن تسهم هذه المركبات في تقليل التكاليف التشغيلية بفضل تقليص الحاجة إلى عدد كبير من السيارات العاملة في الطرق، إلى جانب الحد من التأثير البيئي، بفضل أنماط القيادة الذكية التي تحافظ على استهلاك الوقود بشكل أكثر كفاءة.

التحديات التنظيمية والرقابية القائمة

- رغم هذه الفوائد، لا تزال المركبات ذاتية القيادة تثير العديد من التساؤلات التنظيمية والرقابية، إذ لم يتم حتى الآن وضع إطار قانوني واضح ينظم عمل هذه المركبات، ويضمن مستويات السلامة المطلوبة.

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

- ويواجه صانعو السياسات  تحديًا كبيرًا في مواكبة هذه التطورات السريعة، حيث لم يتم بعد إقرار أنظمة رقابية شاملة تكفل معالجة المخاوف المتعلقة بسلامة هذه المركبات على نحو فعال.

هل المركبات ذاتية القيادة أكثر أمانًا من السائقين البشر؟

- من السهل افتراض أن السيارات ذاتية القيادة ستكون أكثر أمانًا من المركبات التي يقودها البشر، نظرًا لأن العامل البشري يُعد المسؤول الأول عن معظم حوادث الطرق.

- فبحسب تقرير صادر عن الإدارة الوطنية لسلامة المرور على الطرق السريعة، شهد عام 2022 ما يقارب 42,795 حالة وفاة ناجمة عن حوادث المرور في الولايات المتحدة وحدها على سبيل المثال.

- كما كشفت دراسة أجرتها الإدارة عام 2015 أن نحو 94% من الحوادث تُعزى إلى أخطاء بشرية، وليس إلى أعطال فنية أو ظروف بيئية.

- استنادًا إلى هذه الأرقام، يبدو منطقيًا الاستنتاج بأن استبدال أنظمة قيادة ذاتية متطورة بالسائقين البشر قد يقلل بشكل كبير من الوفيات المرورية.

- أشارت دراسة أجرتها شركة الاستشارات الاقتصادية "سونيكون" إلى أن المركبات ذاتية القيادة قد تسهم في خفض معدلات الحوادث الناتجة عن القيادة تحت تأثير الكحول (30%)، وحوادث السرعة الزائدة (22%)، والاصطدام بالأجسام الثابتة (17.5%).

حوادث مأساوية تكشف عن تحديات التقنية

- لكن هل هذه الافتراضات صحيحة تمامًا؟ تحذر الجمعية الأمريكية لمهندسي الحاسوب من أن افتراض أن المركبات ذاتية القيادة ستُقلل بالضرورة من الحوادث والوفيات على الطرق ليس دقيقًا بالضرورة.

- من جانبه؛ يؤكد فيليب كوبمان، أستاذ جامعة كارنيجي ميلون، أن الحواسيب ترتكب أخطاءً أيضًا، بينما يشير ماثيو وانسلي، أستاذ القانون، إلى أن المركبات ذاتية القيادة سترتكب أخطاءً غير متوقعة، مختلفة تمامًا عن تلك التي يرتكبها السائقون البشر.

- وبالفعل، وقعت حوادث ناجمة عن قرارات خاطئة لأنظمة الذكاء الاصطناعي، فقد شهد عام 2018 أول حادث مميت تُسببه سيارة ذاتية القيادة، حين صدمت مركبة تابعة لشركة "أوبر" امرأة كانت تعبر الطريق بدراجتها في مدينة فينيكس، أريزونا.

- وأوضح تقرير المجلس الوطني لسلامة النقل أن نظام الإدراك في السيارة أخفق في التعرف الدقيق على الضحية، إذ صنّفها بداية على أنها جسم غير محدد، ثم كمركبة، وأخيرًا كدراجة، دون التمكن من توقع مسارها الصحيح.

- ومما زاد من فداحة الحادث أن نظام الكبح التلقائي كان معطّلًا، بينما كان المشغل البشري منشغلًا بمشاهدة محتوى على هاتفه، فلم يتمكن من التدخل في الوقت المناسب.

- وعلى الرغم من أن هذه الحوادث نادرة نسبيًا، إلا أنها تُثير تساؤلات حول مدى قدرة هذه الأنظمة على التعامل مع جميع السيناريوهات المرورية غير المتوقعة.

ثغرات في الذكاء الاصطناعي

- تكشف هذه الحوادث عن نقاط ضعف في أنظمة الإدراك المعتمدة على التعلم الآلي، والتي تُعد جوهر تقنية السيارات ذاتية القيادة.

- أظهرت دراسات أن أنظمة الرؤية الحاسوبية قد تُخطئ في التعرف على إشارات المرور، مثل تفسير إشارة التوقف على أنها إشارة تحديد سرعة بمقدار 45 ميلاً في الساعة، ما قد يؤدي إلى حوادث كارثية.

- وتشير تقارير السلامة إلى أن هذه الأنظمة حساسة للظروف البيئية غير المتوقعة، مما يجعل أدائها غير مستقر في حالات معينة.

معايير السلامة المطلوبة

- وفقًا لإحصاءات الإدارة الوطنية لسلامة المرور على الطرق السريعة، فإن إجمالي المسافة التي قطعها الأمريكيون عام 2022 بلغ 4.8 تريليون كيلومتر، ما يعني أن معدل الوفيات المرورية يقدر بحالة وفاة واحدة لكل 160 مليون كيلومتر.

- هذا يعني أن السيارات ذاتية القيادة يجب أن تحقق هذا المستوى من السلامة أو تتجاوزه قبل أن يتم اعتمادها بديلاً للسائقين البشر.

- وفي ظل هذه التحديات، يصبح من الضروري تطوير معايير تنظيمية دقيقة للمركبات ذاتية القيادة، بحيث تضمن توازنًا بين دعم الابتكار التقني وحماية أرواح المستخدمين.

هل السيارات ذاتية القيادة أكثر أمانًا من البشر؟

- على الرغم من هذه الحوادث، تدّعي بعض الشركات أن سياراتها تتفوق على السائقين البشريين في جوانب معينة من السلامة.

- فقد نشرت شركة "وايمو" دراسة عام 2023 تشير إلى أن مركباتها، التي قطعت أكثر من 10 مليون كيولمتر دون تدخل بشري، أظهرت معدلات حوادث أقل في بعض الظروف.

- غير أن هذه الدراسة تقتصر على الحوادث غير المميتة وتُجرى في بيئات قيادة محددة، ما يجعل تعميم نتائجها أمرًا صعبًا.

- ووفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة "راند" عام 2015، فإن ندرة حوادث الطرق القاتلة تعني أن إثبات تفوق السيارات ذاتية القيادة على السائقين البشر سيتطلب إجراء تجارب على مئات الملايين من الأميال.

التحديات التنظيمية والثقة العامة في قطاع السيارات ذاتية القيادة

- يواجه صناع السياسات تحديات كبيرة في وضع إطار تنظيمي فعال للسيارات ذاتية القيادة، حيث لا تقتصر العقبات على التكلفة فقط، بل تشمل أيضًا تردد المستهلكين في تبني هذه التكنولوجيا.

- وتشير استطلاعات الرأي الصادرة عن جمعية السيارات الأمريكية إلى ارتفاع معدل القلق بشأن السيارات ذاتية القيادة من 55% في عام 2023 إلى 68%، ولم يشهد هذا المعدل انخفاضًا ملحوظًا في 2024.

- كما تراجعت الثقة في هذه التكنولوجيا من 15% في 2021 إلى 9% خلال العامين الماضيين، مما يعكس أزمة ثقة حقيقية في هذا القطاع.

الحاجة إلى تنظيم أكثر صرامة وثقة المستهلك

- يُعدّ اكتساب ثقة المستهلكين أمرًا جوهريًا لنجاح المركبات ذاتية القيادة. بيد أن تحقيق ذلك يستلزم وضع معايير واضحة المعالم لتقييم السلامة، وإلزام الشركات بتقديم براهين قاطعة على جدوى مركباتها قبل السماح بتداولها وتشغيلها.

- كما يتعين تعزيز نظم التعويضات للمتضررين في الحوادث، ضمانًا لمساءلة الشركات المصنعة وتحفيزًا لإدخال تحسينات مستمرة على سلامة هذه التقنية.

- وفي ظل غياب تنظيم مُحكم، سيظل مستقبل السيارات ذاتية القيادة مُحاطًا بالمخاطر، ما لم تُتخذ خطوات حاسمة لضمان أمن الطرق وسلامة المستهلكين على حد سواء.

المصدر: بروكينجز